ما سبب تسمية الامازيغ بالبربر؟

يسمي البربر أنفسهم غالبا ‘إمازيغن’ و يسمون لغتهم “الأمازيغية” . كلمة “بربر” أصلها لاتيني : “بربارُس” و تنحدر هي الأخرى من اللغة الإغريقية : “برباروس” . هذه الكلمة تعني في الحقيقة “أعجمي” ، أي الذي يتحدث لغة غير مفهومة.
ينبغي أن تكون قد قامت حضارة في المغرب حوالي ألف سنة قبل الميلاد أَطلق عليها المؤرخون اسم الحضارة الليبية البربرية . ساكنة تلك الفترة التاريخية هم أجداد البرابرة الحاليين . المؤرخون لا يعرفون الكثير عن تلك الساكنة و لا عن تلك المرحلة . فأول ما دُوّن عن شمال إفريقيا قام به مدونون إغريق قدماء ، لكن تلك النصوص لم تكن دقيقة أبدا و كانت تتعلق بالمناطق الساحلية فقط . هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ، هو أول من كتب فعلا عن ساكنة المنطقة . هؤلاء السكان سُموا بالليبيين أو النوميديين( أي بمعنى :البدو الرحل )”. 

في حاجات المتعلم


إننا عندما نرجع إلى تاريخ التربية، نجد أن مسألة الغايات التربوية كانت تفرض نفسها عبر مختلف العصور، حيث كان الناس يتساءلون دائما عن نوعية الإنسان المراد تكوينه، وعن طبيعة القيم المرغوب في ترسيخها، وعن الكفايات التي ستحظى بالأولوية مستقبلا. كما أنهم تساءلوا عن طبيعة المجتمع الذي يرغبون في إقامته، إذ نادى البعض ببناء مجتمع قائم على التنافس، كما دعا البعض الآخر إلى بناء مجتمع متضامن. وقد طرحت المجتمعات على نفسها أسئلة أخرى من نوع: هل سيتم العمل على تكوين الإنسان فقط في مجال العلوم الحقة والتكنولوجيات...، أم سيتم تكوينه في مجال الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية، أم سيعطى له تكوينا يأخذ بعين الاعتبار كل هذه الحقول والمجالات...؟

لقد انتقل حقل التعليم من النهوض أساسا على تدريس الإنسانيات إلى خضوعه لهيمنة شبه مطلقة لتدريس العلوم الحقة والتكنولوجيا... وصار مطلوبا من المدرسة أن تمنح الأسبقية لتدريس اللغة الأم دون التخلي عن تدريس اللغات الأخرى ... ومن الأكيد أن التطور سيفرض عليها مستقبلا اختيارات أخرى.... لكن، هل يمكن للمدرسة أن تتنبأ بحاجات المجتمع لما بعد سنة 2025؟ إن التفكير في كل هذه الأمور أساسي جدا، لأن كل غاية تقتضي مجتمعا ونظاما تعليميا خاصين بها، قد يكون على النقيض من المجتمع والنظام التعليمي الذي ترمي إليهما غاية أخرى...

وإذا كان معلوما أن الغايات التربوية تُحَدَّد من قِبَلِ السلطة السياسية التي يجب عليها أن تشرك المجتمع بأكمله في هذه العملية، فلا ينبغي لهذا أن يمنع المدرسون من الانكباب على التفكير في الأسباب العميقة التي جعلتهم يمارسون التعليم، إذ يجب أن يتساءلوا كذلك عن نوعية التلاميذ الذين يرغبون فعلا في تكوينهم... وإذا كان العلم يرمي إلى الغوص في ما وراء المظاهر، فهل يجب أن يضطلع التعليم بهذا الدور، أم سيكرس نفسه من أجل نجاح التلاميذ في الامتحان فحسب، مما يمكن أن ينجم عنه ضياع معنى المدرسة؟

وبما أنه من غير الممكن فصل ما يتم تعلُّمه عن كيفية تعلُّمه، فإن ما هو مهم هو ما يربط بين مضمون التعلُّم وكيفية تعلُّمه. تبعا لذلك، فما هي العلاقة التي يرغب المدرسون في وجودها بين التلميذ ومختلف المواد الدراسية؟ هل هي علاقة استهلاك، أم علاقة إبداع، أم علاقة استخدام اجتماعي...؟ وهل يريدون تكوين أفراد مطيعين، أم يرومون تكوين أفراد مسؤولين يمتلكون فكرا نقديا وإبداعيا، ولهم قدرة على التكيف مع مختلف الأوضاع التي يفرضها عليهم التطور؟ وهل يكمن هدفهم في تكوين أفراد فعالين يفكرون بحرية فقط، أم مواطنين ينظرون مستقبلا إلى الخدمة التي سيقدمونها إلى مجتمعهم من حيث كونها أعظم إنجاز في حياتهم؟...

في سياق هذا التفكير نجد أنفسنا أمام السؤال التالي: هل ينبغي أن تكون الغايات التربوية التي يسعى إليها المدرسون معروفة من قِبَلِ المتعلمين؟ إنني أرى أنه يجب أن يعرف هؤلاء هذه الغايات نظرا وعملا، وخطابا وسلوكا، ما يمنحها تماسكا وترابطا... ويظهر لي أن هذا شرط ضروري لكي يكون لكل من التدريس والتعلم معنى.

تجدر الإشارة إلى أنه بعد تحديد الغايات، يتم الانتقال إلى تحديد المعارف المنسجمة معها، والتي تساهم في تحققها نسبيا. كما يتم تطوير الطرائق التدريسية وأساليب التقويم الملائمة لها... وأي تناقض بين هذه المكونات يؤدي إلى النسف الكامل للعملية التعليمية-التَعَلُّمية، ويُفقدها أي معنى...

لكن، عندما ننتقل إلى التطبيق العملي، نجد أنفسنا أمام السؤال الآتي: ما العمل كي يفهم التلميذ معنى الأهداف المعلنة من قِبَلِ المدرس؟ إن التلميذ لا يستوعب هذه الاهداف جيدا إلا بعد قيامه ببناء المعرفة التي يتعلمها...، كما أن المدرس عندما يغوص في التفاصيل، فإن التلاميذ لا يفهمون، حيث يفقدون التركيز والانتباه. أضف إلى ذلك أنه عندما يقدم إليهم أجوبة جاهزة، فإن المعرفة تكون معطاة من قِبَلِه ولم يتم إنتاجها من قبلهم، ما يحول دون انخراطهم في البحث المفضي إلى بنائها... وإذا ظل المدرسون متمسكين بالأهداف العامة، فإنها قد لا تعني أي شيء بالنسبة للمتعلمين، إذ لن تجد لها أي صدى في أنفسهم... ولكي يفهم التلاميذ المدرس، يجب إذن أن يبقى، بما يكفي، على المستوى العام، كما ينبغي أن يكون دقيقا، بما فيه الكفاية، لكي يمنح معنى لعمله. هكذا، يمكنه أن يساعد التلاميذ على معرفة معنى ما يتعلمونه؛ إما عبر توضيح الأفكار التي يرمي إلى إنجازها معهم، أو من خلال تقديم الفائدة من العمل الذي ستقوم به جماعة الفصل...، ما قد يغريهم ويجعلهم ينخرطون في العمل من أجل بناء معارفهم. وبقدر ما يتقدمون في بناء المعارف، بقدر ما يدركون معانيها، فتزداد رغبتهم فيها، ويسقطون في حبها، ويقيمون علاقة منتجة وسليمة معها...

للمتعلمين انتظارات Attentes وطلبات Demandes وحاجات Besoins، لكن غالبا ما يتم الخلط بينها. فما المقصود بكل واحدة منها؟

الانتظارات هي، في غالب الأحيان، عبارة عن رغبة واعية. كما أنها ليست مطالبة بحق، بل إنها تدخل في إطار نظام التمنِّي.

وعندما تكون للمتعلم انتظارات، فمن الممكن أن يتقدم بطلبات لتحقيقها، ويعلن عما يرغب في الحصول عليه. ويدخل هذا في إطار نظام التمني المُعَبَّر عنه. لكن يمكن أن تكون للمتعلم انتظارات دون أن يحس بالحاجة إلى التعبير عنها.. ومع ذلك، ينتظر من المدرس الاستجابة لها.

أما الحاجات فهي من طبيعة أخرى، حيث إنها تدخل في إطار نظام الضرورة. وتكمن المشكلة الكبرى في أنه ليس هناك وعي بالحاجات، حيث إنها تكون مجهولة من قِبَلِ المتعلمين. وغالبا ما يسود هذا في الفصل الدراسي وحتى في ورشات تكوين المدرسين. وفعلا، يمكن أن يكون المتعلم غير واع بحاجاته الحقيقية، إذ يدخل الوعي بها ضمن اختصاص المدرس أو المؤطر الذي يفهمها، أو يظن أنه كذلك. وهكذا، وبما أن المدرس هو الذي يعرفها، فينبغي أن يوفر الشروط الديداكتيكية لكي يكتشفها المتعلم ذاته...

ومن الملاحظ، من خلال الممارسة اليومية، أن المدرسين لا يفلحون، عموما، في الاستجابة لانتظارات التلاميذ وتوقعاتهم. فقد يستجيبون بسرعة، في أحسن الأحوال، لطلباتهم. كما أنهم غالبا ما ينخرطون فورا في تلبية الحاجات الفعلية، حيث يرون أن مقاربتهم هذه مفيدة للمتعلمين. لكن أغلب هؤلاء ليسوا دائما مستعدين فورا، وبدون بذل أي مجهود بيداغوجي من جانب المدرس، لتلقي عنصر معين عندما يكونون في انتظار عنصر آخر.

يفترض المدرسون حاجات التلاميذ أو يحدسونها، ويحاولون الاستجابة لها فورا، وذلك رغم أنه من المفيد، على الأقل في مرحلة أولى، المرور بانتظاراتهم. تبعا لذلك، فإن المشكل مطروح إذن على الشكل التالي: أليس ملائما البدء بالاستجابة إلى الطلبات، أي للانتظارات، بأكبر سرعة ممكنة، للوصول إلى جعل التلاميذ يكتشفون حاجاتهم الضرورية؟ إنه عندما يتمكن المدرس من توفير الشروط التربوية الملائمة، فإنه يستطيع تحويل الحاجات اللاواعية إلى انتظارات وطلبات، شريطة أن يبذل ما في وسعه لكي يحصل الوعي بذلك عبر خلق وضعيات بيداغوجية يكتشف التلاميذ من خلالها ما ينقصهم وما يغيب عنهم، أي ما هم في حاجة إليه فعلا...

قد يتم تنظيم تكوين للمدرسين من أجل دراسة كيفية مساعدة التلاميذ على التعلم. ولإنجاز ذلك، ينبغي أن تتوفر لهم الشروط الملائمة لكي يعبروا في البداية عن انتظاراتهم وتوقعاتهم، حيث تظهر بعض الطلبات وتختفي أخرى. وبعد المناقشة...، يسهل انخراط الجميع في تطوير إشكالية هذا التكوين.

يظهر لي، من خلال تجربتي في تأطير المدرسين والمؤطرين التربويين، أن أغلبهم يكون هدفهم الأساس، في البداية، هو الحصول على وصفات جاهزة ينتقلون تَوََّا إلى تطبيقها بسلاسة وبدون أدنى مشكل. وهم يرون أنهم على صواب في ما يرغبون في الحصول عليه، لكننا نكون مضطرين، في البداية، لمسايرتهم والاستجابة إلى طلبهم هذا. وفي هذه الحالة، نكون ملزمين بمحاولة تطوير وصفات وتمارين وأدوات وتقنيات... يرون أنها ملائمة للتلاميذ لكي يتعلموا التعلم. لكن هدفهم هذا لا يستقيم نظرا ولا عملا، حيث إن أغلب الدراسات البيداغوجية تؤكد أن تزويدهم بهذه الأدوات ليس فعالا، لأنه يُسقطهم في نزعة تقنية technicisme تحول دون إنتاج المتعلمين لمعارفهم وبنائهم لمعاني ما يتعلمونه. وبالرغم من ذلك، فإننا نتخلى مؤقتا عن وجهة النظر هذه، ونمنحهم هذه الأدوات والتقنيات... مع الحرص على ربطها بتحليل عميق يُمَكِّنهم من إدراك طبيعتها وحدودها وانعكاساتها... هكذا تكون البداية بمناقشة كيفية استعمال هذه الأدوات..، ونستمر في ذلك في ورشة التكوين إلى أن يكتشفوا محدودية تصوراتهم ومنزلقاتها...، ويعبروا عن رغبتهم في البحث عن طريقة مغايرة للتدريس... وهنا، يبدأ الانخراط فعلا في التكوين، حيث يأخذ هذا الأخير حجمه. فما هي إذن الإستراتيجية التي اعتمدناها؟ لقد بدأنا بالاستجابة لانتظارات المتكونين، وقد كان هدفنا هو جعلهم يعون، في نهاية المطاف، حاجاتهم الضرورية. وعندما ظهرت هذه الحاجات، وأخذت معناها عندهم، ظهر الطلب على تلبيتها، واستطعنا بعد ذلك السير جماعيا في اتجاه بناء شروط تربوية أكثر فعالية في التدريس...

تبعا لذلك، إنه لابد من معرفة انتظارات المتعلمين وطلباتهم حتى نتمكن من الانطلاق معهم منها بهدف جعلهم يُقبلون، عن وعي ومن تلقاء أنفسهم، على التخلي عن تصوراتهم غير المفيدة حول انتظاراتهم وطلباتهم. ويحدث ذلك عبر تطوير وضعيات بيداغوجية، تُدخلهم في علاقة سجالية Relation polémique مع ذواتهم (G. Bachelard). وهكذا، ينخرطون في مساءلتها، حيث يفكرون، وكأنهم يصطدمون مع تمثلاتهم الخاصة التي ينظرون بها إلى العالم... (Paul Valéry). وهذا ما يُدخلهم في صراع معرفي داخلي يدفعهم إلى البحث عن إقامة توازن جديد، الأمر الذي سيساعدهم على تغيير شبكة تمثلاتهم الخاطئة لانتظاراتهم وطلباتهم، والتوصل إلى اكتشاف حاجاتهم الفعلية، والانخراط معرفيا وعاطفيا في تلبيتها. وهذا ما سَيُحَوِّلُهم إلى ذوات قادرة على التفكير والإبداع باستقلال عن الآخرين...

يكمن دور المدرس في الربط بين المعارف الكونية والأوضاع الخاصة لتلاميذه. وليست البيداغوجيا علما، بل يجب باستمرار إبداع طرائق إشراك التلاميذ في مغامرة المعرفة. ولا يتعلق الأمر فقط بمغامرة من قِبَلِ المتعلم، بل إنها أيضا مغامرة بالنسبة للمدرس ذاته، حيث يجب عليه أن يُنَوع طرائقه، ويبدع وسائل جديدة لتحفيز تلاميذه، ويعيد النظر في آرائه في حالة فشله بهدف جعلهم يعيدون النظر في ذواتهم ويفجرون العوائق التي تحول دون بنائهم لمعارفهم ويتجاوزونها... وتبعا لذلك، فإن المغامرة تهم المدرس أولا، إذ يجب أن تتولد لديه الرغبة في اكتشاف مختلف طرائق النفاذ إلى المعرفة. إنها عملية بحث مستمر، الأمر الذي يتطلب تكوينا مستمرا... 

محمد بوبكري

في التوتر الديداكتيكي




لا يقتضي بناء المعارف فقط قدرة المتعلم على استعمال عُدَّة تقنية فحسب، بل يستوجب أساسا تكوين حالة ذهنية لديه، إذ ينبغي أن يكون راشد المستقبل قادرا على تقدير الرهانات وتحدِّي الذات والآخر في آن.

يلاحظ المتأمل في نظامنا التعليمي أن التدريس عندنا لا يعد الفرد للوعي بالرهانات المحلية والكونية، حيث يقوم على طرائق وقواعد... لا تمكن من أكثر من المواجهة الآلية لوضعيات معروفة ومتكررة، كما لا تُعلم سوى طاعة القواعد المعمول بها في المدرسة... وللتدليل على ما نقول، يكفي أن ننظر إلى ما تقتضيه الامتحانات المدرسية عندنا، وإلى كيفية تحضيرها. نحن نسير في الاتجاه المعاكس للتوجهات التربوية الحديثة التي تركز على ضرورة اكتساب المتعلم للقدرة على خلق قيم جديدة أكثر من الحفاظ على القديمة (L. Cros, 1981). وفي إطار هذه الدينامية، يشكل تجاوزُ الذات لذاتها ومواجهة التحديات قواما حقيقيا لبناء المعرفة والإنسان في آن...

لقد كانت الطريقة الحوارية السقراطية تعري التناقضات القابعة في الفرد، فتفرض عليه مواجهة ذاته. وإذا كان التعلم ليس إضافة معارف جديدة إلى أخرى قديمة، فإن مواجهة الفرد لتمثلاته الخاصة تصبح مقاربة أساسية يجب استغلالها في التدريس. ألم يقل ج. بياجيه J. Piaget ذاته إن التعلم هو تجاوز سلسلة من الصراعات؟

إننا نتعلم مع الآخرين وبهم، وذلك عبر التبادلات والمواجهات والشك في بعض التمثلات... وإذا كنا نستعمل الآخرين في تعلمنا، فإننا نساعدهم أنفسهم في تعلمهم. وهذا ما يبين الأهمية الكبرى للصراع السوسيو-معرفي في التعلم.

إن التعلم من أجل ذاتنا هو أيضا تعلم من أجل الآخرين، لأنه يؤدي إلى الاستخدام الاجتماعي للمعارف المكتسبة، ممَّا يكشف عن معنى المعرفة ودورها.

إذا كان من غير الممكن الفصل بين بناء الإنسان لذاته وبنائه لمعرفته، فإن بناءهما لا يكمن فقط في وضع المتعلم أمام صعوبات، بل وكذلك في القدرة على تجاوزها. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن يتحول الإنسان إلى فاعل قادر على ركوب المخاطر. لكن عندما ننظر إلى ما يقوم به تلاميذنا، فإننا نجدهم يقفون جامدين عند ظهور مشكلة معينة أمامهم، وينتظرون من يأتي لنجدتهم عبر تزويدهم بما يجب فعله! ويعود موقفهم هذا، بشكل كبير، إلى العادات التي تكونت لديهم منذ صغرهم داخل أوساطهم الأسرية. لكن لا ينبغي اتخاذ هذا ذريعة لنفي مسؤولية المدرسة نفسها عن ذلك.

تبعا لذلك، يجب أن تُعلم المدرسة التلاميذ كيفية تجاوزهم لذواتهم، لأن انخراطهم في البحث يحركهم ويثير فضولهم المعرفي ويشجعهم على التفكير والالتزام والفعل. أما إمدادهم بكل التسهيلات، فلا يؤدي سوى إلى شلهم. أضف إلى ذلك أن تجاوز عائق معين من لدن المتعلم قد يشكل محركا يؤهله للدخول في دينامية جديدة تجعله ينخرط في مشروع آخر...

وهكذا يجب تطوير وضعيات تعلُّمية تخلق لدى المتعلم جرأة على الشك ليبحث ويبتكر ويمنح الثقة لما يمكن أن يظهر طوباويا أحيانا. كما ينبغي عدم رفض كل ما هو غريب وغير متداول. فغالبا ما يواجه الباحثون الأمر نفسه عندما يضطرون للشك في ما وضعه أسلافهم وأساتذتهم الذين يحترمونهم. إن هذا أمر صعب، لكن مهمة الباحث تقتضي جعل الممكن معروفا والحلم بتحقيق ما هو غير ممكن.

انسجاما مع ذلك، يغدو من الضروري أحيانا عدم الاكتفاء بالفهم، إذ يجب أيضا الالتزام، ما يقتضي الانتقال من الكوجيتو الديكارتي " أفكر، إذن أنا موجود" إلى ما قاله كامو Albert Camus "أتمرد، إذن أنا موجود".

لا يسري هذا الكلام على التلاميذ وحدهم، بل يهمّ أيضا المدرسين الذين ينبغي أن ينخرطوا باستمرار في تنويع مقاييسهم وممارساتهم وتجديدها عبر استعمال خيالهم... قد يظهر للبعض أن في هذا نوعا من التمرد، لكن ما لا يتم الانتباه إليه هو أن عدم إقدام المدرسين على فعل ذلك يغلق أمامهم أبوابَ التكيف مع ظروف التلاميذ المعقدة، ويحول دون تمكين هؤلاء من الانخراط في إنتاج المعرفة... ويرى فليب ميريو Ph. Meirieu أن المدرسة تلزمنا بأن نفصح عمن نحن وما نحمله في ذواتنا، في حين يجب أن يعمل البيداغوجي كل ما في وسعه من أجل التلاميذ... ويحترس من المدرسة ! (Ph. Meirieu, 1993).

وهكذا، يجب ألا يتخذ الكتاب المدرسي طابعا قدسيا يلزم الجميع باتباعه حرفيا، إذ لا يمكنه أن يتضمن أجوبة عن كل أسئلة التلاميذ والمدرسين، وأن يقدر على التكيف معهم في كل الأحوال والظروف. كما أنه لا يستطيع تطبيق ذاته بذاته، ولا أن ينوب عن المدرسين والمتعلمين في التعليم والتعلم.... فينبغي أن يكون مجرد إطار عام يتضمن توجهات عامة وأمثلة...، ولا يمكنه أن يكون فعالا إلا عبر انفتاحه على كتب أخرى، وعلى خيال التلاميذ والمدرسين والمؤطرين التربويين... وتبعا لذلك، فإنه كتاب قابل للإثراء والتجاوز,,,

قد يبدو ما نقوله منطويا على دعوة إلى التمرد، لكن طبيعة بناء المعرفة هي التي تستوجب ذلك. إنها فعل عميق، وليست مجرد إضافة معارف إلى أخرى. ويعني ذلك أن أنها تتطلب خيالا وانفتاحا وإرادة ومثابرة...

وإذا كان الواقع بطبيعته معقدا، فإن التعلم يتطلب وضع التلميذ في وضعيات تدريسية معقدة. لكن هذا لا يعني تطوير وضعيات جد صعبة تتجاوز بكثير القدرات العقلية الحالية للتلاميذ، إذ سيجعل ذلك المدرسين يعتقدون أن هذا النوع من الوضعيات هو اختيار بيداغوجي غير ملائم. فالوضعية المعقدة تطرح صعوبات قابلة للتجاوز من قِبَلِ المتعلم، لأنها مثيرة لفضوله وجذابة له، حيث تساعده على تكوين نظرة شمولية للواقع وتحفزه على الانخراط في التعلم من تلقاء نفسه. لكن هذا يستلزم امتلاك المدرس لعُدّة تدريسية ملائمة وفعالة...

وتجنبا للسقوط في العقم التربوي، تقتضي التدريسية حاليا معرفة المدرس كيفية تدبير التوتر الديداكتيكي، وتجنبه شحن التلميذ معرفيا بشكل زائد عن الحد.

ويعني التقدم، عند التلميذ، الذهاب نحو ما لا يعرفه بعد. ولذلك، يتعين منحه مكانا للتفكير والفعل والإنتاج، ما يفرض على المدرس أن يكون أكثر أو أقل بعدا عن المتعلم حسب تقديره لدرجة الصعوبة التي يواجهها هذا الأخير. فعند مواجهة التلميذ لصعوبة كبيرة، ينبغي أن يكون المدرس قريبا منه لطمأنته وإثارته وتشجيعه على التفكير واستعمال طاقاته ومكتسباته المعرفية في اتجاه بناء معرفة جديدة، دون أن ينوب عنه في ذلك. وعليه، يجب على المدرس أن يوازن التوتر الديداكتيكي tension didactique القائم بين المعارف التي يتوفر عليها التلميذ والمعرفة الجديدة التي يريد له أن يكتسبها. وهكذا، يلزمه أن يخلق توترا بينهما يمكن أن يساعد التلميذ على بذل مجهود أكبر، ما يفرض على المدرس اتخاذ الاحتياطات البيداغوجية الضرورية لتجنب خلق هوة تُعَرِّضُ العلاقة بين هاتين المعرفتين للخطر، فتعوق تعلم المتعلم (Michel Serres).

إننا نطلب من التلاميذ، أحيانا، أن ينجزوا ما يعرفون فعله، كما قد نطلب منهم أن يخطوا خطوات تفوق طاقاتهم. وهذه مسألة يجب أن نعيها، إذ هناك مسافة بين طبيعة معارف التلميذ و"مشروع" المدرس، إن جاز القول. وهذا ما يخلق ما يسمى بالتوتر الديداكتيكي. إن هذه المسافة طبيعية، لكن يجب ألا تكون كبيرة جدا. ولا تكمن المشكلة في الصعوبة في حد ذاتها، وإنما في أن الاشتغال على موضوع جد معقد قد لا يكون له معنى بالنسبة للتلميذ، أو قد يصعب عليه استيعابه، ما قد يشل تفكيره... لهذا، ينبغي أن يحس المتعلم بأنه معني، ويعرف أن في إمكانه التوصل إلى مداخل عديدة لاستيعاب موضوع دراسته اعتمادا على التقاط معالم ومؤشرات تساعده على منحه معنى... كما يجب أن تتوفر له الشروط التربوية التي تمكنه، ولو جزئيا، من القدرة على تمثل الهدف الذي ينبغي تحقيقه.

أحيانا، نلاحظ أن المتعلم يفقد جزءا من قدراته ومؤهلاته... عندما يوضع أمام مهمة صعبة. ففي الدرس اللغوي مثلا، قد يعجز التلميذ، في لحظة معينة، عن استعمال الكفايات التي اكتسبها من قبل وسبق له أن استعملها في وضعيات سالفة. من ذلك أنه قد يفقد القدرة مؤقتا على استعمال النقط والفواصل وعلامات الترقيم الأخرى التي سبق له أن اكتسبها عندما يدخل في كتابة بنية نص جديدة، كأن ينتقل من كتابة نص سردي إلى آخر تفسيري.

وقد يحدث الشيء نفسه عند إنتاج التلاميذ لنص معين، حيث يلاقون صعوبات في التحكم في المضمون الذي يريدون التعبير عنه، وفي كيفية كتابته. وهذا ما لا ينتبه إليه المدرسون ولا يحللونه...

على العكس من ذلك، عندما يكتب بعض الراشدين نصا معينا، فإنهم لا يهتمون بمشاكل الإملاء والنحو...، إذ يكتبون بكل تلقائية لأنهم متحكمون فيها. لكن الأمر قد يصير بخلاف ذلك عندما ينتقلون إلى الكتابة بالحاسوب دون تدريب سابق على كيفية استعماله. فقد يبتلعهم الجانب التقني إلى حد مصادفتهم صعوبات في تطوير أفكارهم ومعالجة أسلوبهم والصياغة الدقيقة لما يريدون التعبير عنه... وهكذا، قد نجدهم عاجزين جزئيا عن توظيف مجموع الكفايات التي اكتسبوها سابقا، بسبب وجود عوائق مرتبطة بخبرات أخرى ينبغي تدبيرها في الآن نفسه.

إن التلاميذ في حاجة إلى اكتساب تلك التلقائية، ويتعين أن يكون ذلك هدف المدرس. ولا ينبغي الاعتقاد أن الارتكاز الكبير على هذه التصرفات التلقائية يعني الاشتغال مثل الآلة. ففي الواقع، يتعلق الأمر بالاقتصاد في الطاقة والجهد، وتحديد المسائل التي ينبغي حلها في حقل كفايات معين، مما يمكن من تكريس الذات كليا لحل مسائل أخرى، والتركيز على الأنشطة التي تتطلب ابتكارا وإبداعا. فالإنسان يمتلك طاقات كبيرة يجب استعمالها (G. De Vecchi et N. wCarmona Magnaldi,).

لا يمكن التخلي عن تطوير الوضعيات المعقدة، لكن ينبغي تسليط الضوء عليها ومعرفة حدودها. فليس أمامنا اختيار آخر، إذ لا يمكن بناء المعارف بفعالية إلا عبر الوضعيات المعقدة. لكن يجب ألا تنصب مطالب المدرس على كل شيء دفعة واحدة. ولا يعني تجنب تحميل التلاميذ ما يفوق طاقتهم المعرفية ألا نطالبهم باستعمال مجموعة كبيرة من المهارات دفعة واحدة، بل ينبغي تشغيل هذه الأخيرة عبر برمجتها زمنيا. انسجاما مع ذلك، فإن الأمر يتعلق بالبحث الدائم عن توازن عبر جعل الوضعية التكوينية تدفع، ما أمكن، بالمتعلم في اتجاه التطور نحو الأعلى…

وتبعا لذلك، ينبغي أن يرافق المدرس التلميذ أبعد ما يمكن في تعلمه، ويثير حريته وفضوله، ليقرر هو ذاته الانخراط في مغامرة المعرفة. ويقتضي ذلك تطوير إطار ديداكتيكي ملائم لمستوى النمو الذي ينبغي تجاوزه، وتشجيع التلميذ على الخوض في المجهول، إذ هو قادر على تعلم أشياء أكثر فأكثر صعوبة مما يعرفه...

محمد بوبكري

المدرسة وغياب المعنى


يكمن أحد الأدوار الأساسية للمدرسين في البحث عن معنى ما يُدَرِّسُونه من معارف لتلاميذهم. وهذا ما يقتضي البحث عن المعنى الذي يمكن أن يكون لها، وكذا عن المعنى الذي يمكن أن يمنحه المتعلمون لها.

قد ينظر الأطفال والآباء إلى نشاط معين بكونه مهما، لكن تختلف كل فئة عن الأخرى في المعنى الذي تمنحه له. فإذا أخذنا القراءة مثلا، فإننا نجد أن الآباء يولون أهمية كبيرة لقراءة القصص للأطفال الصغار، إذ يرون في هذا النشاط مدخلا أو مقاربة أولية للقراءة. هكذا، فعندما نقرأ القصص للأطفال الصغار، فإننا نسافر بهم إلى عوالم سحرية، ما يطلق العنان لخيالهم، ويُمَكِّنُهم من تذوقها، ويخلق لديهم شيئا فشيئا الرغبة في الانخراط في المغامرة الصعبة لتعلم القراءة. ونضيف إلى ذلك أن هذا يساعدهم على اكتشاف معنى المكتوب، حيث يدركون أن هذه الخربشة المخطوطة على الورق قد تم تنظيمها ضمن نسق يروي أروع الحكايات وأجمل المغامرات... لكن الآباء لا يستمرون في القراءة لأطفالهم إلى ما لا نهاية، بل إنهم يتوقفون عن ممارستها بمجرد أن يبدأ الأطفال في معرفة القراءة، وذلك حتى ولو استمر هؤلاء في مطالبتهم بالاستمرار في القراءة لهم. وإذا ما قمنا بتحليل هذه الوضعية بحثا عن معنى هذا النشاط لدى كل من الآباء والأطفال، وجدناه مختلفا عند كل منهما. فالآباء يرغبون أن ينخرط أطفالهم في القراءة في سن مبكرة، ما يدفعهم إلى القراءة لهم كي يحببوها لهم ويحفزونهم عليها... وعندما يتوقفون عن الاستمرار في فعل ذلك، فإنهم يريدون أن يمارس الأطفال القراءة وحدهم بتلقائية، ويستقلون عنهم في ممارسة هذا النشاط. لكن قد يكون المعنى الذي يمنحه الطفل لنشاط القراءة هو غير ذلك الذي يحمله الأب أو الأم عنه، لأن الأمر يتعلق أساسا عند أغلب الأطفال بتلبية حاجة عاطفية. فالطفل يريد أن يقرأ له والده أو أمه بدافع الرغبة في أن يقضيا معه وقتا ممتعا ويكونا رهن إشارته... تبعا لذلك، فإن بعض الأطفال قد يرون أن توقف الآباء عن القراءة لهم يحرمهم من متعة قضاء لحظات جميلة معهم. هكذا لن يهتم هؤلاء الأطفال بأن يصيروا قراء جيدين، ما قد يُبدد كل ما اكتسبوه سابقا خلال قراءة القصص لهم من قِبَلِ آبائهم.

عندما ننتقل إلى المدرسة، فإننا لا نجد دائما أن المعنى الذي يقدمه المدرس هو نفسه الذي يكتسبه التلميذ، بل إن أغلب التلاميذ يفعلون ما يُطلب منهم فعله دون أن يدركوا معناه ولا لماذا فعلوه... وغالبا ما لا يعي المدرسون أن المعنى الذي استوعبه التلاميذ ليس هو فعلا ما قالوه لهم. بناء على ذلك، إنه لا يمكن أن نتصور أن تلميذا يستطيع تطوير فرضية أو حل مسألة يطرحها عليه المدرس من دون أن يكون لهما أي معنى لديه.

علاوة على ذلك، يرتبط المعنى ارتباطا وثيقا بالثقافة والوسط الاجتماعي والتاريخ الشخصي للتلميذ. وفي هذا الإطار، لاحظ " فليب بيرينو" Philippe Perrenoud أنه عندما يُطلب من التلاميذ للمرة الأولى كتابة إنشاء، فلا أحد منهم يستطيع إنجاز ذلك بشكل سليم، إذ لا تكون كتاباتهم أصيلة، ولا يكون مضمونها مهيكلا، وذلك حتى ولو تعلق الأمر بالكتابة في موضوع بسيط ومباشر. لكن قد يُنير المناخ الديداكتيكي الطريق لبعض التلاميذ، ما يمكنهم من اكتشاف معنى هذا النشاط، فيصبحون قادرين على تحسين إنجازاتهم الكتابية اللاحقة. وعلى عكس ذلك، فقد يستعصي على بعضهم الآخر فهم الفائدة من كتابة نص حول شخصية بعض أقاربهم أو حول كيفية قضائهم لعطلتهم... فليس لهذا أي معنى بالنسبة إليهم، إذ لا تثير هذه المواضيع فضولهم أو تغريهم، لأنهم يجدون المعنى في أشياء أخرى غيرها. ويمكن تفسير ذلك بتأثير ثقافة التلاميذ في مهامهم المدرسية، حيث تؤثر في المعاني التي يمنحونها لمختلف الأشياء والأحداث والكائنات، كما تؤثر في استجابتهم أو عدم استجابتهم لما تتوقعه المدرسة منهم...

يمكن للوضعيات الديداكتيكية التي يطورها المدرس أن تكون أيضا حاملة للمعنى، إذ يمكن لدينامية حل مسألة أن تشكل نشاطا له معنى، حيث يقوم هذا الأخير على البحث والنشاط الفكري المفتوح... وعلى العكس من ذلك، نلاحظ اليوم كثرة الارتكاز على تصورات بيداغوجية تحكمها نزعة تقنية تختزل المعرفة وتتناقض مع طبيعتها في غالب الأحيان. ويظهر لي أن ذلك لا يصنع شيئا بالنسبة للتلاميذ، ولا يفيدهم في أي شيء، إذ يُحَوِّلهم، في أحسن الأحوال، إلى كائنات تشتغل بطريقة أوتوماتيكية. نتيجة ذلك، ينجم عن هذه النزعة التقنية انحراف يؤدي إلى فقدان عمل التلاميذ لأي معنى...

عندما يتخذ شخص قرارا متعلقا بحياته، فقد يكون لما سيقوم به معنى بالنسبة إليه، أو لا يكون. ومن النادر أن ينجز شخص شيئا لا معنى له لديه. كما أنه من البديهي أن يكون المتعلم أيضا في حاجة إلى المعنى. وبالرغم من ذلك، فإننا نرى أن أغلب المعارف المدرسية خالية من أي معنى بالنسبة للمتعلمين. وهذا ما ينسحب على أغلب مضامين الكتب المدرسية وعلى ما يجري داخل حجرات الدرس... ويرجع ذلك إلى أن المعرفة المدرسية مفصولة عن استعمالاتها في الحياة اليومية، ما يَحول دون تمكين التلاميذ من القدرة على الانخراط في اكتشاف ما لا يعرفونه عبر بنائه...

تُعَوِّدُ مدرستنا الأطفال والتلاميذ على الجمود أو على الفعل الخالي من أي دلالة أو تفكير، إذ غالبا ما لا يتساءلون عما يفعلونه ولا عن الهدف من فعله... ومن المدهش أن العمل الذي يُفرض عليهم إنجازه ليس له أي معنى بالنسبة إليهم. وهذا ما يجعل عملهم منحصرا في التكيف مع ما يُؤمرون بفعله حتى ولو كان متنافرا ومتهافتا. تبعا لذلك، فعندما يتعلق الأمر بحل مسألة رياضية، فإن أغلب التلاميذ ينخرطون في حلِّها بشكل آلي دون معرفة معاني المفاهيم التي يشتغلون بها، ولا أصولها، ولا تاريخها، ولا الروابط التي تجمع بينها سواء داخل نفس الحقل المعرفي أو بين مختلف حقول المعرفة. كما أنهم لا يعرفون كيفية إنتاج المعرفة بها، ولا حدودها... فهم ملزمون بالمقررات الدراسية، لكنهم لا يدركون معناها ولا علاقاتها بالحياة، ولا دلالتها بالنسبة للمستقبل... إنهم يراكمون معارف مجزأة لا رابط بينها، ما يُحَوِّل المعارف المدرسية إلى كلمات متقاطعة غير منتظمة في أي نظام. نتيجة ذلك، أصبح التلاميذ يمشون فوق كلمات ورموز ورسوم البرامج الدراسية المُضَمَّنَةِ في الكتب المدرسية، ولا يدركون أهميتها ولا جدواها... إنهم لا يطرحون أي سؤال حول المضامين المُقَدَّمَة إليهم، ولا يحسون بالحاجة إلى منحها معنى. هكذا، فلا يكمن المعنى، بالنسبة إليهم، في المعارف التي يُفترض أن يتعلموها، بل يرونه كامنا في النجاح في الامتحانات والحصول على الشهادات... وبذلك، فهم لا يقيمون علاقة سليمة بالمعرفة، وإنما هم يطمحون فقط إلى النجاح من أجل احتلال مواقع اجتماعية مهمة مستقبلا. هكذا، فإنهم لا يجدون الحافز في المعرفة، بل خارجها. تبعا لذلك، فإنهم لا يتعلمون شيئا، وإنما قد يتحايلون من أجل النجاح دون اكتساب ما يستوجب ذلك من قدرة على بناء المعارف والاشتغال بها... وهذا ما يساهم في استفحال ظاهرة الغش في الامتحانات وترسيخها في المجتمع... يعود ذلك إلى أن عدم اكتشاف التلاميذ لمعاني الأشياء يحرمهم من لذة المعرفة، ما يحول دون انخراطهم الكامل في مغامرة التعلُّم، وينفرهم منه، الأمر الذي قد يصيبهم بالخمول والجمود...

كثيرا ما يفرض المدرس على التلاميذ تدوين ما يقوله ويكتبه على السبورة...، لكن قد لا تسمح لهم طبيعة مضامينه المعرفية المُرَكَّبَة والمعقدة بفهمه بسرعة، حيث يتطلب ذلك فترة زمنية وعُدَّة ديداكتيكية لاستيعابه من قِبَل التلاميذ... لكن، عوض أن يتم خلق شروط تربوية تمكنهم من إدراك معاني هذه المعارف عبر الانخراط في بنائها، فإنه يتم نعتهم بالعجز عن المتابعة والمسايرة... تبعا لذلك، يجب على التلاميذ أن يكتبوا ما يُلقَى عليهم دون التفكير فيه أو مساءلته...، ما يعني أن عليهم أن يفعلوا ما يُطلب منهم فعله دون فهمه... هكذا، تكون أفعالهم جوفاء خالية من أي معنى، الأمر الذي يحول دون نموهم ويجردهم من إنسانيتهم... فليس ممكنا أن ينخرط التلاميذ في البحث عن الدلالات إلا عندما يكفون عن التصرف ككائنات آلية ويدركون معاني الأشياء عبر توفر شروط تربوية تمكنهم من معرفة المعارف المدرسية من خلال إنتاجها، ما يفسح لهم ولمدرسيهم المجال لبناء معنى المدرسة عبر الاستثمار في ذلك معرفيا ووجدنيا...

لا تمتلك المعرفة معنى في ذاتها، حيث إن المتعلم والمدرس هما اللذان يمنحانه لمضمونها. أضف إلى ذلك أن المعنى شخصي، إذ يقول رولان بارث Rolant Barthes إن السميولوجي يرى المعنى في الشارع حيث يرى الناس الأشياء. وهكذا يمكن لهذا الأخير أن يجد خطابا حول فعل البيع l’acte de vendre في واجهات المتاجر حيث تُعرض البضائع. وليس هذا التحليل حديثا جدا، إذ يشرح " ألان" Alain أن الجندي يرى في آثار حوافر فرس على الأرض آثار فارس، لكن يرى فيها المزارع آثار فلاح. وقد يستطيع التلميذ، خلال نشاط مدرسي، فهم ما يُطلب منه وتحديده، لكن هذا لا يعني أن ما يُقدم إليه يحمل معنى بالنسبة إليه. تبعا لذلك، يتحول التلميذ إلى آلة تطحن الفراغ. ولتغيير هذا الوضع الخالي من أي معنى، يجب أن تحيل المعرفة المدرسية على ما يجعل المتعلم ينخرط في التعلم. فالوقائع موجودة، لكنها تكتسب معنى حسب الطريقة التي يوجدها بها كل واحد.

يقتضى منح المعنى لنشاط تربوي معين التصرف بالشكل الذي يمكن المتعلم من الحضور الفاعل، ويجعله يحس بفائدة وأهمية المعرفة التي يتعلمها. وهذا ما ينبغي تجسيده عبر إقامة علاقة بين المعرفة وشخص التلميذ، ما يعني ربطها بمشاكله وتاريخه الخاص وأسلوب تفكيره وما يطرحه من أسئلة على نفسه، وكذا بحاجاته الواعية وغير الواعية...

ويعني منح المعنى معرفةَ ما يراد فعله، إذ يكمن المعنى في معرفة الهدف المراد تحقيقه. كما يتطلب ذلك معرفة السبب الذي يُحرك الإنسان لفعل ما يريد فعله.

وعندما نتأمل في كيفية اشتغال نظامنا التعليمي حاليا، نجد أنه يهدف أساسا إلى الدفع بالمتعلم إلى الفعل فقط من دون إدراك معنى ما يفعله، الأمر الذي يحول دون تعُمه ويحكم عليه بالجمود. لكن لكي يكون هناك معنى، يجب أن يفعل المتعلم من أجل التعلم، إذ ينبغي أن تتهيأ له الظروف الديداكتيكية كي يفكر ويبني المعرفة وينتجها ليستوعبها... 


محمد بوبكري

التَعَلُّمَ والخطأ



يرى دارسو تاريخ العلوم أن هذا الأخير قد عرف الكثير من الأخطاء التي يرجع الفضل إليها في تقدم العلوم وازدهارها... وإذا كانت شهرة طوماس إديسون Thomas Edison راجعة لاختراعاته العديدة وعلى رأسها المصباح الكهربائي، فإنها راجعة أيضا إلى الفشل المتكرر الذي طبع عمله قبل توصله إلى اكتشافاته... فبعد تفجيره لثلاثة مختبرات، بدأ أصدقاؤه يضغطون عليه ليغير مهنته بمهنة أخرى، لكنه كان يردُّ عليهم بأنه أصبح، بفضل تلك الأخطاء، يعرف أكثر من أي وقت مضى كيف يُنجز ما يريد إنجازه، وأنه استفاد من فشله المتكرر، ما يجعل نجاحه مؤكدا لا محالة.

ويروي بعض المهتمين أن "إديسون" قد قام بعشرة آلاف محاولة قبل اكتشافه المصباح الكهربائي. وعندما استغرب أحدهم لمثابرته واستمراره في المحاولة رغم فشله المتكرر، أجابه هذا العالم قائلا: " إنني لم أفشل، بل اكتشفت عشرة آلاف طريقة لا تفضي إلى اختراع المصباح الكهربائي".

إن ارتكاب الأخطاء Erreurs ظاهرة بشرية طبيعية. ومن المفيد أساسا اعتبارها جزءا لا يتجزأ من سيرورة تَعَلُّم الإنسان وتطوره.

يحيط بكلمة "خطأ Erreur " لبس، مما يفرض الإشارة إلى أن الخطأ التربوي يختلف عن الأخطاء التي يمكن أن تُرتكب في مجالات أخرى. فالخطأ مفيد في حقول العلوم والتربية، لكنه مرفوض تماما في مجالات القضاء والطب. أضف إلى ذلك أن النازية والفاشية وكل الاتجاهات التي تنحو نحوهما هي جرائم، وليست أخطاء كما يُرَوِّج البعض.

عندما يتعلم الطفل المشي أو ركوب الدراجة الهوائية، فإن الأمر يتطلب منه الانخراط في سيرورتين معقدتين يستعصي تحليلهما بتفصيل. ومع ذلك، فإن الخطأ والفشل لا يوجدان بالنسبة إليه، حيث يحاول الوقوف والخطو أو ركوب دراجته، فيسقط، ويصطدم بكل الكائنات والأشياء الموجودة في طريقه... لكنه سرعان ما ينهض، ويَُصلح من شأنه من جراء ما تعرض له من جروح ورضوض طفيفة، ثم يُعيد الكَرَّة من جديد. إن هدفه الوحيد هو الوقوف والمشي على قدميه، أو ركوب دراجته الهوائية... فضلا عن ذلك، يساهم أهل الطفل وأقرباؤه في سيرورة التعلُّم، حيث يشجعونه ويدعمونه ويفرحون أو يبكون معه. إنهم مقتنعون أن أسلوب المحاولة والخطأ هو الوسيلة الوحيدة للتعلُّم.

يحكي بيتر كلاين Peter Kline تجربة مهمة قام بها أحد أساتذة الثانوي. لقد كان لهذا المدرس فصلان دراسيان ينتميان إلى نفس المستوى الدراسي، لكن كان أحدهما يتكون من تلاميذ جيدين، والثاني من آخرين غير جيدين. ويحكي هذا المدرس أنه استطاع أن يحول، بسهولة، المجموعة الجيدة إلى غير جيدة، والمجموعة غير الجيدة إلى جيدة. ويفسر ذلك بأنه كان كلما أخطأ تلميذ ينتمي إلى المجموعة الجيدة، عاقبه. وإذا أخطأ تلميذ من المجموعة غير الجيدة، بذل قصارى جهده من أجل توفير شروط أفضل لتشجيعه على التقدم... وهكذا، أصبح، بسرعة كبيرة، غير الجيدين جيدين، والجيدون غير جيدين. وطبعا، لم يستمر المدرس في ممارسة هذا النهج التخريبي تجاه التلاميذ الجيدين...

تقوم أغلب أنظمة التعليم بالمعاقبة على ارتكاب الخطأ عوض الاستفادة منه. ويعود ذلك إلى نظرتها الخاطئة لطبيعة المعرفة ولكل من التلميذ والمدرس وما يجمعهما من علاقات، وإلى استعمالها السيئ لللامساواة الموجودة بينهما وعدم قدرتها على توفير الشروط التربوية الضرورية لكي يتجاوز المُتَعَلِّم ذاته باستمرار... وهذا ما جعل المدرس، في ظل نظام التعليم التقليدي، ينظر إلى الخطأ بكونه خطيئة أخلاقية مناهضة للدين والثقافة والنحو والرياضيات... كما أنه يعتقد أن خطأ التلميذ إرادي هدفه الإساءة إلى المدرس والمعرفة في آن. وهذا ما يجعل رده عنيفا على أخطاء التلميذ.

عندما يتعرض التلميذ للعقاب والإهانة بسبب الأخطاء التي يرتكبها في تعلُّمه، فإنه يتوصل إلى أن ميزان القوى المعرفي القائم بينه وبين المدرس والمؤسسة التعليمية ظالم ومُخَرِّب بشكل كامل. نتيجة ذلك، فإنه يتوقف عن التفكير، فيلوذ بالصمت، ويصبح هدفه الأساس هو تجنب مغامرة الكلام أو الفعل داخل الفصل المدرسي حتى لا يرتكب أخطاء تجلب له العقاب والإهانة...

هناك كثير من النفاق اللاواعي الذي يمارسه الكبار تجاه أخطاء الأطفال والمراهقين. فقد يستطيع الآباء والمدرسون التمييز بين "الصواب" و"الخطأ"، وما هو مرغوب فيه وما هو مرفوض. لكنهم يجدون صعوبة في الاعتراف بأنهم ذاتهم ارتكبوا ويرتكبون أخطاء بشكل مستمر. وهذا ما يشكل تناقضا.

أضف إلى ذلك أنه غالبا ما يستند المدرس إلى أخطاء التلميذ للحكم على كفاءته، وعلى قدرته على فهم مادته الدراسية، بل إنه يعتمدها في التنبؤ بمستقبله ومصيره...

فعندما يكون في إمكاننا أن نخطئ دون أن نتعرض للعقاب من جراء ذلك، فإننا نطور ثقتنا بأنفسنا، ونكون أكثر جرأة، فنخاطر بركوب مغامرة المعرفة... تبعا لذلك، سيكون مفيدا تطوير وضعيات تعلُّمية تمكن التلميذ من تطوير هذه القدرة على التجرؤ والمغامرة معرفيا. وإذا كان التعلم مزعجا بما يتطلبه من مجهود من قِبَل المتعلم...، ينبغي أن يتوفر لهذا الأخير محيط مُطََمئِن تتسم فيه العلاقات بالاحترام والتعاون، ما يُمكِّن المدرس من مساعدة التلميذ على الاستفادة من أخطائه، وتطوير ثقته بنفسه، والخروج من عزلته، والانخراط في سيرورة بنائه لذاته عبر تطويره لمشروعه الشخصي أو المهني... هكذا، فإن التشجيع على الجرأة والمغامرة واتخاذ القرار هو أساس التعلم النوعي.

إن الذين يرتكبون أخطاء قليلة هم عموما أولئك الذين لا يتجرأون ولا يخاطرون. لكن لكي تتطور الحياة لصالح الفرد والمؤسسات والإنسانية، ينبغي أن يركب الإنسان المخاطر، ويتقبل ارتكاب الأخطاء، ويعمل على الاستفادة منها لتجاوزها. ومن المؤسف جدا أن نجد أناسا لا يفعلون شيئا، ويكتفون فقط بنقد ما يتم عمله من قِبَل الآخرين، وهم لا يعون أنه لا مستقبل لما يقومون به، لأنهم لا يُطَوِّرون مشروعا ولا ينجزون شيئا... وهذا ما يحول دون تقدمهم وتطوير قدراتهم الإبداعية...

تحضرني حكاية بطلها إطار كبير يعمل بشركة أمريكية، حيث يحكي هذا الرجل أنه طوَّر منتوجا جديدا، لكن العملية عرفت فشلا تسبب للشركة في خسارة مليون دولار. فنادى عليه المدير العام، وكان متأكدا من أن هذا الأخير سيبلغه قرار طرده من عمله. فلما دخل عليه، خاطبه المدير العام قائلا:

- لقد تسببت للشركة في خسارة مليون دولار.

فأجبه:

- نعم سيدي

فنهض المدير العام من مقعده، وشدَّ على يديه قائلا: "أريد أن أهنئك، لأنه لا نجاح في إنجاز المشاريع بدون اتخاذ قرارات. ولو تجنبت اتخاذ القرارات، لما مُنيتَ بالفشل والخسارة. إنني مع اتخاذ القرارات، ويقوم عملي على جعل المسؤولين قادرين على اتخاذها، لكنك إذا ارتكبت الخطأ نفسه مرة ثانية، ستفقد عملك. ثم أردف قائلا: أتمنى أن تتخذ قرارات كثيرة، وأنا متأكد أن قراراتك المستقبلية ستعرف نجاحا أكثر...".

وهناك من يضيف إلى هذه الحكاية أن هذا الإطار قال لمدير الشركة: "كنت أعتقد سيدي أنك ستطردني من العمل بعد الخسارة المالية التي تسببت فيها للشركة. فردَّ عليه المدير العام قائلا: "هل تمزح؟! لقد أنفقت مليون دولار من أجل تكوينك، وأتمنى أن تكون قد استفدت من دروس هذا الفشل".

تؤدي معاقبة الإنسان على أخطائه خلال تَعَلُّمه إلى إحجامه عن استعمال عقله الخاص، ما يقوده إلى الانغلاق والجمود... وهذا ما يعوق انخراطه في الحداثة، حيث إنها، أساسا، اقتلاع الذات وخروجها من وضعية سابقة إلى وضعية أكثر تقدما. وقد ورد هذا الخروج في الفقرة الأولى من النص الذي كتبه إيمانويل كانط E. Kant جوابا على سؤال: ما الأنوار؟

يقول كانط: الأنوار هي خروج الإنسان من حالة القصور التي هو نفسه مسؤول عنها. ويعني القصور عجز الإنسان عن استخدام "ملكة" الفهم (القدرة على التفكير) دون وصاية الآخرين. والإنسان مسؤول عن هذا القصور لأن سببه لا يعود إلى عيب في ملكة الفهم، بل إلى نقص في اتخاذ القرار وفي الشجاعة التي تمكنه من أن يستعملها دون وصاية الآخرين. يقول كانط: تجرأ على التفكير! لتكن لك الشجاعة على استخدام ملكة فهمك الخاص!. فالذات تكون في حالة قصور عندما تطيع بدل أن تفكر...

هكذا، لا يمكن أن يتجرأ المتعلم على استعمال فهمه الخاص، إذا كان يُعاقب على ما يرتكبه من أخطاء عند إقدامه على التفكير... تبعا لذلك، يجب تغيير نظرتنا إلى الخطأ بهدف الاستفادة منه تربويا، وكذا في شتى مناحي الحياة.

يلعب الخطأ دورا بناء في التعلُّم عندما ننتبه إليه باكرا. ويقتضي هذا أن نتوصل بإشارة من أحد أقاربنا، أو ملاحظة من مدرسنا، أو أي رد فعل خارجي ينبهنا إلى ما ارتكبناه أو ما نرتكبه من أخطاء. فعندما يبدأ الطفل الكلام أو المشي، فإنه يتوصل في كل لحظة بتوجيهات معقدة من قِبَلِ محيطه يتعرف من خلالها على أخطائه وعلى مدى تقدمه في التعلم... ونجد الشيء نفسه لدى الراشد عند تعلُّمه السياقة أو العزف على الكمان أو لغة أجنبية، حيث إن الأقارب يقومون بردود فعل لتنبيهه لأخطائه وتوجيهه...

ولكي نتعلم جيدا وبسرعة، يجب أن نتوصل بـ "تغذية راجعة" feed-back كافية ومقنعة وسريعة لكي لا يترسخ الخطأ ويزداد استعصاء على التجاوز من قِبَلِ المتعلم... وهذا ما يتطلب أن يتحدث المدرس أمام تلاميذه بصوت مرتفع عن كل الأسئلة التي طرحها على ذاته عبر مسار تطوره المعرفي، والمشاكل التي واجهها في طريق تعلمه، والصعوبات والعوائق التي تَمَكن من تجاوزها، والأساليب ووسائل التي استعملها في ذلك. يجب أن يُبرز المدرس أخطاءه الخاصة مبينا مساهمتها في تقدمه معرفيا... هكذا، يمكن للتلاميذ أن يستفيدوا من محاولاته وتجاربه وأخطائه معتبرين ارتكاب الخطأ أمرا طبيعيا شريطة الاستفادة منه وتجاوزه...

إن التقويم لا يُمَكِّن المتعلم من التقدم إلا إذا صار، على نحو ما، تقويما ذاتيا. ويتحقق ذلك عندما يتبنى التلميذ ما يوجه إليه من نقد ويدمجه ضمن دينامية تعلمه الخاصة. هكذا، يلزم المدرس دعم تلاميذه، وتلبية حاجاتهم، وتقويم أنشطتهم وأدائه الخاص ذاته. فضلا عن ذلك، ينبغي أن يثير فضولهم، ويولِّد لديهم الإحساس بكفاءتهم وتقديرهم لذواتهم والثقة فيها، ويقيم مناخا يطبعه الدفء والود داخل الفصل الدراسي...

إذا كان الخطأ من طبيعة الإنسان وسبيلا للاقتراب من الحقيقة، فإن الاستفادة من توظيفه تربويا لا تساهم فقط في نمو المتعلم معرفيا...، بل إنها أيضا يمكن أن تشكل مدخلا أساسيا للتربية على الديمقراطية، إذ إن هذه الأخيرة هي، أساسا، الاعتراف باحتمال خطأ الذات، وبأن الإنسان قد يتعلم من الآخر الذي قد يكون على صواب... وإذا ما استوعب المتعلم ذلك، فإنه سينأى بنفسه عن الفكر والنظام الشموليين، حيث سيقبل اختلاف الآخر عنه، بل يراه ضروريا لإقامة الحوار الذي يشكل سبيلا لإصلاح الأخطاء والتقدم والعيش معا في جو يسوده الاحترام والسلام...

محمد بوبكري

التَعَلُّمُ والنِّسبية



لقد اعتقد الفيزيائيون، في أواخر القرن التاسع عشر، أنهم استكملوا اكتشاف كل القوانين الفيزيائية، حيث صرَّح عالم الفيزياء الشهير "اللورد كيلفن" Lord Kelvin قائلا: "تشكل العلوم الفيزيائية اليوم مجموعة منسجمة كليا ومكتملة عمليا". وأضاف مستطردا إن هناك فقط مسألتين صغيرتين مزعجتين لم يتم حَلُّهما بعد. ولم يكن لديه أدنى شك بأن هاتين المسألتين سيتم التغلب عليهما وإزاحتهما من الطريق سريعا بفضل النجاحات الكبيرة التي تم إحرازها في مجال العلوم الفيزيائية أنئذ.

وقد أدى البحث لاحقا في هاتين المسألتين الصغيرتين إلى اكتشاف ما يسمى اليوم بنظرية "النسبية" و"فيزياء الكمَّات" Physique quantique. وهذا ما أدى إلى إعادة النظر في القاعدة المنطقية لأرسطو المسماة بـ "قانون الثالث المرفوع" الذي تقول صيغته إنه ليس هناك وسط بين الوجود واللاوجود. وتبعا لذلك، فإذا كان هذا القانون يرفض وجود الشيء ونقيضه، فقد أصبح ممكنا مع هذا الاكتشاف أن يكون الشيء شيئين متناقضين في آن واحد.

ومن فوائد هذا الاكتشاف أنه يُعَلِّمنا تقبل المجهول والغامض، والقبول بوجود أسئلة بدون أجوبة قطعية، كما أنه يجعلنا نتقبل كذلك وجود أساليب جديدة للعيش والتفكير في ظروف أفضل، ما يشكل ضرورة حياتية في زمننا.

وعندما ننظر إلى ما يجري في مدرستنا من زاوية هذا الاكتشاف، نجد أنها نادرا ما تمنح المتعلمين فرصة لتعلم هذا الأسلوب من التسامح، وقبول أن هناك وقائع غير قابلة للفهم المطلق، وأن هناك أسئلة ليست لها بالضرورة أجوبة صائبة أو خاطئة قطعا. إن المعرفة المدرسية عندنا يقينية، حيث تعتقد مدرستنا أن مصلحة التلميذ تقتضي تجنب الغموض واللايقين.

لكننا عندما نتأمل في طبيعة فعل التعلم، نجد أنه يقتضي معرفة كيفية تقبل الغموض والشك واللايقين، حيث إنه تلك الحالة التي نمر بها منذ بداية الانخراط في اكتشاف المعرفة الجديدة، التي لم نفهمها بعد، وصولا إلى اللحظة التي نستوعبها فيها نسبيا، إذ إن ما نتعلمه لا يمكن اختزاله فيما نفهمه فورا، كما أن فهمنا له لا يكون مطلقا.

لقد بَيَّن كارل بوبر Karl Popper أن معيار الطرح العلمي لا يكمن في حقيقته، بل في قابليته لوجود دليل معاكس له، وإمكان نقده بأساليب علمية. ويعود ذلك إلى أن الاكتشافات العلمية الحديثة قد بينت أن المعرفة العلمية متطورة باستمرار، إذ تتجاوز معرفة اليوم معرفة الأمس، إن لم تقطع معها وتكشف عن خطئها. أضف إلى ذلك أننا لا نمتلك معيارا عاما للحقيقة، حيث إن هذه الأخيرة تعني مطابقة الخطاب للواقع، لكن ليس لدينا معيار موضوعي عام يُمَكِّنُنَا من التأكد من مطابقة خطاب معين للواقع.

إننا لا نهدف من وراء هذا الطرح إلى الإقرار بفشل العلم، بل نريد أن نقول إن العلم لا يقبل اليقين، وأن الطريقة الوحيدة للتأكد من قيمة طرح علمي معين هي نقده. وقد يظل الطرح قائما طالما أن النقد لم يبطله. وهكذا، فليست هناك حقائق مطلقة في العلم، وإنما هناك فقط فرضيات مؤقتة.

لقد ولَّى زمن اليقين والإيمان المطلق بأن معيار الطرح العلمي هو حقيقته، وانقرضت معه الإيديولوجية العلموية. وأكد تطور العلم ذاته أن يقين اليوم هو موضوع شك غدا، وأن تطور المعرفة رهين بتوفر إمكانية نقد مسلمات الأمس واليوم. وهكذا تم تقويض أساس العقل الحديث. لكن، إذا كان النقد العلمي هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة، فلماذا لا يكون النقد سبيلا للاقتراب من حقيقة العلاقات بين البشر بهدف دمقرطتها؟ بعبارة أخرى، بما أن الطرح العلمي فرضية قابلة للنقد، فلماذا لا يكون القرار البشري قابلا له كذلك؟

نحن في حاجة إلى عقل جديد مبني على الاعتراف باحتمال خطأ الذات، لا على امتلاكها للحقيقة المطلقة. كما أننا أيضا في حاجة إلى خطاب منسجم مع طبيعتنا البشرية غير المعصومة من الخطأ. وليس هذا الأخير خطيئة، بل إنه من طبيعة الإنسان، وهو السبيل الوحيد إلى الاقتراب من الحقيقة.

وإذا انخرطت المدرسة في هذه الرؤية، فإنها ستساعد الفرد على بناء ذاته المنفتحة على العالم، والمحترمة للآخر الذي لا يمكنه توظيفها، والقادرة على التفكير قبل التصرف، والمتحكمة في انفعالاتها...

ينجم عن غياب النقد التوقف عن التفكير، مما يحرم الإنسان من النمو ولذة البناء والاكتشاف، ويقضي على الرغبة في المعرفة وحب الاستطلاع لديه... وعندما يكون الفرد أمام خيارات وبدائل مختلفة، ويكون في إمكانه التفكير في ممكنات عديدة وآفاق مختلفة، ينمو فضوله المعرفي. لكن عندما تنعدم هذه الإمكانية، تغيب لذة الاكتشاف والرغبة في المعرفة في آن واحد.

وحين يتأمل المرء في تدريس العلوم بمدرستنا، يجد أن هناك ميلا كبيرا إلى تدريس القوانين دون مساءلتها. وهكذا يغيب تدريس الفكر العلمي والحس النقدي، حيث إن كل من يكتفي بتعلم مضمون المبرهنات الرياضية Théorèmes mathématiques وقوانين الطبيعة وتطبيقها، لا يكتسب سوى تقنية لا روح فيها، كما أنه لا يتعلم التفكير، بل يميل إلى الخضوع.

تبعا لذلك، تقوم مدرستنا بتدريس العلم من حيث كونه معتقدا، إذ نادرا ما تقدم للتلاميذ برهنة على الحقائق العلمية، إن لم يكن ذلك منعدما، بل يطلب منهم تطبيقها بشكل آلي. نتيجة ذلك، لا يدرك المتعلم معاني العلوم التي يدرسها، بل إنها تتحول لديه إلى معارف محنطة لا حياة فيها. وهذا ما يحول دون اكتساب التلاميذ للفكر العلمي. بناء على ذلك، ينطبق على مدرستنا قول الفيلسوف "كورنيليوس كاستورياديس" Cornélius Castoriadis: إنه لا يتم تدريس البرهنة على المبرهنات في الرياضيات، بل إنها تقدم من حيث كونها معطى (...) ونتيجة يجب أن يؤمن بها التلاميذ لإنجاز تمارينهم. وهذا ما يصيبنا بالجنون، حيث تكمن الفائدة من الرياضيات، وخصوصا في التعليم الثانوي، في إدراك ما تعنيه البرهنة.

تنهض المقاربة العلمية على فكر البحث والاكتشاف المستمر، بمعنى الشك المبدع... وهذا هو الفكر العلمي السليم، كما أنه الفكر النقدي الخالص. ولا يمكن اكتساب هذا الفكر فقط بتعلم الرياضيات والفيزياء بشكل صوري يركز فقط على حل المعادلات بشكل ميكانيكي، من دون الاهتمام باستيعاب عناصر الظاهرة الفيزيائية... التي تشكل موضوعها. إننا نسقط في نسيان الواقع الذي يراد بسطه، إذ كثيرا ما يصير التجريد ضد الطبيعة، حيث إن الفيزياء، كما يشير إلى ذلك اسمها، هي بالضبط علم الواقع.

ينبغي أن يفعل التلميذ أكثر مما يسمع ويتقبل، ويجب أن تتوفر له الشروط الديداكتيكية ليستوعب ما يدرسه. فلا تضاف المعرفة إلى الذهن كجوهر أجنبي عنه، بل إنه يتمثلها بقواه الحية الخاصة به عبر بنائها. وعلى كل إنسان أن يجني معرفته بجهد عقله. هكذا يتم تطور الذهن بتنميته وتنظيمه، لا بما ينضاف إليه من الخارج. ولا تعتبر التربية السليمةُ الذهنَ جوهرا لا حياة فيه، بل تتعامل معه باعتباره روحا حيا. تبعا لذلك، يجب أن يفكر التلميذ بذهنه الخاص، كما يجب أن يصدح المُغَنِّي في جوقة بصوته الشخصي. فالتعلم هو القيام شيئا فشيئا باكتشاف معنى المادة الدراسية عبر الانخراط في إنتاج المعرفة، كما أنه التمكن من فهم الأسئلة التي تطرحها على ذاتها حول العالم، وكذا معرفة المناهج المستعملة في إنتاج المعرفة ضمن إطارها، والنظريات الكبرى التي تم تطويرها في مجالها. وتساعد هذه المقاربة على التقدم التدريجي في بناء المعرفة ومنحها معنى، لكنها عمل لا نهائي لا يمكن استنفاده.

لا تمارس هذه الطريقة عندنا في فهم العلوم وتدريسها. إننا نقبل بدون صعوبات التجريدات الرياضية أو تطبيقاتها التقنية والآلية. كما أننا نقبل الدواء الذي يعالج المرض، والطائرة التي تنقلنا من بلد إلى آخر، والحاسوب الذي يساعدنا على الإنجاز السريع للعمليات الحسابية المعقدة جدا، لكننا نرفض استيعاب المنهجية العلمية التي مكنت من الوصول إلى هذه الاختراعات. بناء على ذلك، إننا نفضل اليقين والمطلق، ولا نقبل الشك المبدع الذي يشكل قاعدة لتطور العلوم. كما أننا نرفض الفكر الذي يدرك التمايز بين الأشياء، والذي يشكل قاعدة العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وهكذا، فإن مدرستنا لا تُدخل في اعتبارها المستجدات العلمية ولا طبيعة كل الحقول المعرفية التي تدرس بها، ولا كيفية إنتاج المعارف...، مما يحول دون مراكمتها لتجارب مفيدة تمنحها معنى...



محمدبوبكري
 

ماهي سوسيولوجيا التربية؟




يمكن اعتبار سوسيولوجيا التربية،بصفة عامة،كفرع من فروع علم الاجتماع الذي يدرس التربية كظاهرة اجتماعية.و تحفل أدبيات سوسيولوجيا التربية بعدة تعاريف نذكرمنها:
- علم اجتماع التربية يدرس العوامل الاجتماعية التي تؤثر في الصيرورة المدرسية للأفراد: تنظيم النسق/الجهاز المدرسي ،ميكانيزمات التوجيه، المستوى السوسيو- ثقافي للآباء،استدماج القيم والمعايير الاجتماعية من طرف المتعلمين،مخرجات النسق التعليمي.(Pédagogie:dictionnaire des mot clés…1997).
- سوسيولوجيا التربية،بصفة عامة، تعتمد المقاربة السوسيولوجية في دراسة الظواهر التربوية،لكنه بالمعنى الأنجلوساكسوني، وهو السائد،تحصر الظواهر التربوية في أنظمة التعليم في المستوى الأول، وتأتي دراسة المؤسسات الأخرى في سلم اعتباري ثانوي،على قدر علاقتها بالمدرسة والتعليم(سلسلة التكوين التربوي،عدد3).
- سوسيولوجيا التربية،أو المقاربة السوسيولوجية للتربية...مفادها تحويل النظريات والقوانين السوسيولوجية على الواقع التربوي والتعليمي،من خلال دراسة وتحليل النماذج التربوية والطرق والتقنيات والأساليب التربوية،والقضايا والمشكلات أو الإشكاليات التي تتكون داخل المؤسسات التعليمية النظامية واللانظامية.وتتم هذه الدراسة السوسيولوجية من خلال عملية تحليل تفاعل العناصر التربوية والتعليمية داخل نسقها الاجتماعي؛ وفي إطار نظرية شمولية ماكروسكوبية، تدرك مختلف العلاقات القائمة في عملية التفاعل بين مكونات البنية أو النسق التي توجد ضمنه الظاهرة التربوية(عبد الكريم غريب،2000،بتصرف).
- هي مقاربة للظاهرة التربوية مقاربة سوسيولوجية تعتمد على القواعد المنهجية للسوسيولوجيا في دراسة وتحليل الظروف والملابسات الاجتماعية المحيطة أو المؤطرة للموقف التربوي(سلسلة التكوين التربوي،عدد1، طبعة97-98)

· مجالات سوسيولوجيا التربية:

هناك عدة مجالات تشتغل حولها سوسيولوجيا التربية،وهي مجالات متنوعة ومتزايدة باستمرار،مما يجعل مسألة تحديدها بدقة وشمولية أمرا صعبا.لذا نكتفي بهذا التحديد لأهم مجالاتها:
1- مجال المدخلات (les entrées) ونجد فيه:
- التلاميذ: وتنصب الدراسة هنا حول العوامل الفزيقية والنفسية والعقلية والاجتماعية، كالسن والجنس ومستوى الذكاء والمنشأ الاجتماعي والثقافة...حيث يتعلق الأمر بسيكولوجية التلميذ وبسوسيولوجيا التلميذ(مقاربة سيكو- سوسيولوجية)
- هيأة التدريس والإدارة: يتم التركيز هنا على المتغيرات المهنية والسياسية، كمستوى التكوين،ونمط الاختيار، والتموقع في البنية الاجتماعية، والتوجهات السياسية والنقابية...
2- مجال المخرجات( les sorties) ويرتبط بتلقين النظام الأخلاقي والمعارف، وبنمط البيداغوجيا وقواعد التقييم...
- تلقين النظام الأخلاقي والمعارف: هرمية المعارف،تقسيمها الأفقي(علوم أو آداب،علوم صرفة او علوم تطبيقية)،القواعد الصريحة او الضمنية التي تتحكم في النظام الأخلاقي(القيمي) وفي المعارف، عواقب هذه الهرمية على مستوى تشكيل الهوية المدرسية للمتعلمين.
- نمط البيداغوجيا: يهتم هنا بالكيفية التي تلقن بها المحتويات، وبتكنولوجيات التعليم( الوسائط الديداكتيكية) وباستعمال الزمن الذي يعكس في جزء منه الأهمية الاجتماعية للمواد الدراسية،وبطبيعة العلاقات بين المعلم والمتعلمين،وببنية السلطة داخل القسم..
- التقويم: ويرتبط بالقواعد الظاهرة أو الكامنة المهتمة باصطفاء وانتقاء الأفراد.
وهناك مجالات أخرى اهتمت بها سوسيولوجيا التربوية، كدراسة الأنظمة التعليمية وتحليلها،التنظيم المدرسي وعلاقته بسوق العمل، البحث في الأصل الاجتماعي للتلاميذ وعلاقته بالتحصيل والنجاح المدرسيين، الفشل المدرسي، المساواة و تكافؤ الفرص والفشل التربوي،الديمقراطية والتعليم...
وكمثال، نجد أن بعض المواضيع السوسيوتربوية التي اهتم بها في فرنسا تتمثل في: المردود المدرسي في علاقته بالامتيازات الثقافية، العوائق السوسيواقتصادية والثقافية عند الطفل/ المتعلم، تأثير البيئة الحياتية على لغة التلاميذ،التناغم والتنافر بين الانظمة التربوية والحاجات الاجتماعية- الاقتصادية للجماعة، المنبت/الأصل الاجتماعي للطلاب والارتقاء الجامعي،الطبقات الاجتماعية والبنى الفكرية لجمهور المدرسة، دمقرطة التعليم والتفاوت بين الأقاليم،انعكاسات الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على بنى التعليم وعلى المناهج والطرائق وإعداد المعلمين.(سلسلة التكوين التربوي،عدد3، 2001 )
· المقاربات والتيارات السوسيوتربوية:
يعرف حقل سوسيولوجيا التربية مقاربات متعددة للظاهر التربوية في بعدها الاجتماعي،و منها يمكننا التعرف على المقاربات التالية:
1- المقاربة الوظيفية:
تنظر الوظيفية إلى المجتمع باعتباره" نسقا اجتماعيا واحدا،كل عنصر فيه يؤدي وظيفة محددة" وتؤكد كذلك على"ضرورة تكامل الأجزاء في إطار الكل". وعليه،ترى الوظيفية المجتمع باعتباره نسقا اجتماعيا متكاملا،يقوم كل عنصر من عناصره بوظيفة معينة للحفظ على اتزان النسق واستقراره،وتوازن المجتمع واستمراره،ومعالجة الخلل دون المساس بالنظام الاجتماعي القائم،من خلال الاتفاق على معايير التنظيم الاجتماعي،التي يجب الخضوع لها،والاشتراك في قيم الحياة الاجتماعية،التي يجب الالتزام بها من أجل صيانة المجتمع،وترسيخ استقراره واستمراره(عادل السكري،1999). لذلك هناك من صنف المدرسة الوظيفية ضمن الاتجاهات الإيديولوجية المحافظة.
وتحت تأثير الوظيفية، تم الاهتمام بدراسة العلاقات المتبادلة بين المجتمع كبناء، والتربية كنظام، والمدرسة كمؤسسة اجتماعية ترتبط بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، وتتفاعل معها في تحديد وظائفها،وتحقيق أهدافها.وعليه،تم التركيز على العلاقة بين المجتمع والتربية والتعليم والاقتصاد،من أجل تكييف عناصر النظام الاجتماعي ووظائفه، حتى يستمر في البقاء والعمل في انتظام؛فتم الربط بين التربية والبيئة الاجتماعية،من خلال انتقاء وتوزيع وتدريب وإعداد قوى العمل اللازمة لسوق العمل؛وينصب الاهتمام، كذلك، على رصد كل أنواع الخلل التي تعوق نظام التعليم عن تأدية وظيفته في تدريب الأفراد، وتصنيفهم وتشكيلهم في مكانتهم الاجتماعية،التي يستحقونها طبقا لقدراتهم العقلية وإنجازاتهم الدراسية. وانطلاقا من المقاربة الوظيفية، تم الاهتمام بمعالجة الخلل في النظام التعليمي من خلال التركيز على دراسة نظام التعليم ذاته، او في علاقته بالنظم الفرعية الأخرى في المجتمع دون أن تشير إلى الخلل القائم في النظام الاجتماعي العام( عادل السكري،1999).
كما نجد أن بعض الدراسات صنفت المقاربات الوظيفية إلى مقاربة وظيفية كلاسيكية ومقاربة وظيفية تكنولوجية؛ حيث قامت المقاربة الوظيفية الكلاسيكية على فكرة الفروق الفردية الوراثية،التي تجعل الفرد يولد ولديه مقدار شبه تابت من الكفاءة والذكاء،لذلك حينما تقوم التربية المدرسية بوظيفة الاصطفاء والترتيب الهرمي للتلاميذ حسب إنجازاتهم و تهيئهم لأخذ مراكز اجتماعية متفاوتة،فإن هذه المقاربة تعتبر ذلك أمرا طبيعيا وعاديا، لأن التربية المدرسية تؤلف عن طريق التنشئة الاجتماعية، التي تساعد الفرد على استضمار قيم ومعايير المجتمع ككل، وتفرق عن طريق الاصطفاء،لأنها تعمل على تطوير الكفاءات والانجازات الفردية،شريطة أن تكون معايير الاصطفاء موضوعية فقط. وقد تميزت فترة ظهور الوظيفية التكنولوجية(1950-1960) بوجود حاجيات جديدة لليد العاملة المؤهلة في المجتمع الصناعي الغربي، الذي بدأ يعرف تقدما تكنولوجيا سريعا ونموا اقتصاديا كبيرا. وقد تقاطعت الوظيفية التكنولوجية مع نظرية الرأسمال الإنساني في كون التربية استثمار منتج على المستوى الفردي والاجتماعي،لذلك يجب استثمار كفاءات الفرد إلى أقصى حد،وفق ماتسمح به قدرات وحاجيات المجتمع، لكي لاتهدر الموارد البشرية الثمينة. وقد سادت في هذه الفترة، كذلك، قناعتان أساسيتان: الأولى سياسية، تقول بان الانفجار والانتشار الكبير للتربية هو أحسن وسيلة لدولة تريد أن تكون ديمقراطية لكي تحد وتقلل من التمايزات الصارخة، والفروقات السوسيواقتصادية؛والثانية اقتصادية، ترى أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية وذلك بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة (نظرية الرأسمال الإنساني)(سلسلة التكوين التربوي،عدد3).
2- المقاربة النقدية(الراديكالية والصراعية)
تضم هذه المدرسة مختلف التيارات النقدية الراديكالية(في مقابل المحافظة) التي عملت على نقد الواقع والمعارف الاجتماعية القائمة، من أجل مجتمع أكثر عدلا ورقيا، ومن اجل محاربة الاستلاب الإيديولوجي والمعرفي. وكرائدة لهذا التيار،اشتهرت مدرسة فرانكفورت،وهي تضم مجموعة من المثقفين اليساريين ذوي النزعة الماركسية الجديدة،وبدأت نشاطها في أوائل الثلاثينيات من القرن 20،" كنظرية نقدية للمجتمع"،بحيث عمل أعضاؤها على الاهتمام بفحص أشكال الحياة الاجتماعية ونقدها،والبحث في أصولها وجذورها،والمصالح التي تعبر عنها،والمعارف التي ترتبط بها، والمشكلات التي تنشأ فيها، والأزمات التي تعاني منها.كما حرصوا على كشف ماهو فاسد في الواقع السائد، والعمل على تغييره، ورفض القيم التقليدية البالية والمعايير الاجتماعية الجامدة، والسعي إلى تجاوزها واستبدالها بقيم ومعايير أخرى أصلح للتغيير. وكانت الرسالة الأساسية لمدرسة فرانكفورت هي مواجهة كافة التنظيرات التي تنكر أو تغفل ذاتية الإنسان ووعيه وفعاليته.
كما نجد بأن هناك من صنف هذه التيارات النقدية في فئة المقاربات الصراعية، التي تعتقد بان المدرسة لا تنتقي من هو أكثر قدرة وإنتاجية وذكاء، وإنما من هو أكثر مطابقة ومسايرة لتمثلات وتوقعات الفئة التي تمتلك سلطة وضبط النظام التعليمي،للمحافظة او الزيادة في امتيازاتها وسلطتها داخل المجتمع.(سلسلة التكوين التربوي، عدد3). وعليه فإن المدرسة تستعمل كأداة للصراع الطبقي والسياسي والاجتماعي،وقد عمل أصحاب التيار النقدي أو الصراعي على تحليل وتوضيح هذا الصراع وآلياته السوسيوتربوية.
وقد تم توجيه الاهتمام من خلال النظريات التربوية النقدية نحو ربط المعرفة التربوية بالمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،وأن المعرفة التي تقدم للمتعلمين بالمدارس إما أن تكون معرفة تبريرية،تسعى للدفاع عن مصالح معينة،وتبرير أوضاع سياسية محددة،أو معرفة تحريرية تكشف الأوضاع الفاسدة والأفكار الزائفة،وتحرير الإنسان من القهر التربوي والسياسي، والاستغلال الاجتماعي عامة. كما تم طرح الأسئلة حول إنتاج المعرفة وشرعيتها وتوزيعها وتقويمها داخل المدرسة،ونوع المصالح التي تدافع عنها، والفئات التي ترتبط بها خارج المدرسة،وشكل العلاقات والمبادئ التي تأكدها،والسياسات التي تحكمها، والمؤسسات التي تتحكم فيها في إطار ثقافة ومجتمع معيين.(انظر أطروحات بعض ممثلي هذا التيار، ك "كارنوي" و بورديو وبرنستين...في موضوع:سوسيولوجيا المعرفة التربوية ، في هذا العدد)
3-المقاربات ذات النموذج المفسر
عكس المقاربات النقدية والصراعية التي اهتمت بما يجري داخل النظام المدرسي التربوي والمدرسي من عمليات إعادة الإنتاج والتحكم السلطوي والإيديولجي في الطبقات الاجتماعية، فإن أصحاب هذه المقاربة ذات النموذج التفسيري، اهتموا فقط بدراسة المنظومة التربوية من الخارج، من خلال دراسة التأثيرات المدرسية التعليمية،معتمدين على ترسانة من الإجراءات الإحصائية والوصفية والاستدلالية، محاولين بالأرقام والإحصائيات تبيان محدودية علاقة المدرسة بالحراك الاجتماعي.
وهناك عدة أطروحات التي اعتمدت نموذجا معينا للتفسير، كالنموذج الإحصائي لجينكس، والنوذج النسقي لسوروكن،والنموذج النسقي-التركيبي لبودون Booudon،الذي سنحاول التطرق إليه لأهميته وشموليته.
ينطلق بودون من مبدإ مفاده أن مشكلة الحراك الاجتماعي أو عدم تكافؤ الفرص،هي نتيجة لمجموعة من المحددات التي لايمكن تصورها منعزلة بعضها عن البعض، وإنما يجب التعامل معها كمجموعة تشكل نسقا.وانطلاقا من معطيات أمبريقية إحصائية،حاول بودون تقديم نموذج نسقي تفسيري لمسارت التمدرس والتراتبية الاجتماعية في المجتمع الصناعي الليبرالي،انطلاقا من متغيرات المنشأ العائلي ومستوى الدراسة والوضع الاجتماعي...وقدم نموذج بودون تفسيرا إجماليا نسقيا لعدد من الظواهر الإحصائية(كمنافذ الشغل والدراسة والمواقع) والمعطيات السوسيولوجية(المرتبطة أساسا بالإواليات المولدة لعدم المساواة).وكأمثلة لبعض النتائج التي توصل إليها بودون: في مجتمع تراتبي يستعمل نظاما متنوعا وهرميا من الكفاءات،فإن الدمقرطة تعرف بالضرورة حدودا لايمكن تجاوزها؛عدم تكافؤ الفرص ينجم بالضرورة عن التقاء نسقين:نسق المواقع الاجتماعية ونسق المسارات الدراسية،حيث نظام اجتماعي تراتبي ونظام تربوي هرمي لا يمكن إلا أن ينتج عنهما لا مساواة وعدم تكافؤ الفرص؛الحراك الاجتماعي يتأثر كثيرا بالتركيب بين بنية الهيمنة وبنية الجدارة والاستحقاق،إذ أن بنية الجدارة والاستحقاق تعني أن مستوى الدراسة هو الذي يحدد الموقع الاجتماعي للأفراد،أما بنية الهيمنة فهي على عكس بنية الاستحقاق، تقلل أو تضعف من فعل الجدارة أو الاستحقاقات،لأنها نابعة من كفاءات الأفراد ذوي المنشأ الاجتماعي المرتفع، حيث يهيمنون على أحسن المواقع، وهكذا يكون الأفراد الذين لهم نفس المستوى الدراسي(نفس الشهادات الدراسية) يحصلون على موقع اجتماعي مرتفع بقدر ما يكون مستواهم(موقعهم)الاجتماعي مرتفعا.(سلسلة التكوين التربوي،عدد5. 5،2001، بتصرف)

4-المقاربة التفاعلية الرمزية
تعتبرُ التفاعلية الرمزية واحدةٌ من المحاور الأساسيةِ التي تعتمدُ عليها النظرية الاجتماعية، في تحليل الأنساق الاجتماعية.
وهي تبدأ بمستوى الوحدات الصغرى (MICRO)، منطلقةً منها لفهم الوحدات الكبرى، بمعنى أنها تبدأُ بالأفراد وسلوكهم كمدخل لفهم النسق الاجتماعي. فأفعالُ الأفراد تصبح ثابتةً لتشكل بنية من الأدوار؛ ويمكن النظر إلى هذه الأدوار من حيث توقعات البشر بعضهم تجاه بعض من حيث المعاني والرموز. وهنا يصبح التركيز إما على بُنى الأدوار والأنساق الاجتماعية، أو على سلوك الدور والفعل الاجتماعي.
ومع أنها تَرى البُنى الاجتماعية ضمناً، باعتبارها بنى للأدوار بنفس طريقة بارسونز Parsons ، إلا أنها لا تُشغل نفسها بالتحليل على مستوى الأنساق، بقدر اهتمامها بالتفاعل الرمزي المتشكِّل عبر اللغة، والمعاني، والصورِ الذهنيةِ، استناداً إلى حقيقةٍ مهمةٍ، هي أن على الفرد أن يستوعب أدوارَ الآخرين.
إن أصحابَ النظريةِ التفاعلية يبدَءُون بدراستهم للنظام التعليمي من الفصل الدراسي (مكانَ حدوثِ الفعلِ الاجتماعي). فالعلاقةُ في الفصل الدراسي والتلاميذِ والمعلم، هي علاقةٌ حاسمةٌ؛ لأنه يمكن التفاوضُ حول الحقيقة داخل الصفّ، إذ يُدرك التلاميذ حقيقةَ كونهم ماهرين أو أغبياءَ أو كسالى. وفي ضوء هذه المقولات يتفاعل التلاميذ والمدرسون بعضهم مع بعض، حيث يحققون في النهاية نجاحاً أو فشلاً تعليمياً.
ومن ممثلي النظريةِ التفاعليةِ الرمزية:
* جورج هربرت ميد George H. Mead (1863-1931):
قام ميد بتحليل عمليةِ الاتصال، وتصنيفها إلى صنفين: الاتصالُ الرّمزي، والاتصال غير الرمزي. فبالنسبة للاتصال الرمزي فإنه يؤكّد بوضوحٍ على استخدام الأفكار والمفاهيم، وبذلك تكون اللغةُ ذاتَ أهميةٍ بالنسبة لعملية الاتصال بين الناس في المواقفِ المختلفة، وعليه فإن النظام الاجتماعي هو نتاجُ الأفعال التي يصنعُها أفراد المجتمع، ويُشير ذلك إلى أن المعنى ليس مفروضاً عليهم، وإنما هو موضوعٌ خاضع للتفاوض والتداولِ بين الأفراد.
* هربرت بلومر H. Blumer (1900-1986):
وهو يتفق مع جورج ميد في أن التفاعل الرمزيَّ هو السمةُ المميزةُ للتفاعل البشري، وأن تلك السمةَ الخاصةَ تنطوي على ترجمةِ رموزِ وأحداثِ الأفراد وأفعالهم المتبادلة. وقد أوجَزَ فرضياتِه في النقاطِ التالية:
• إن البشرَ يتصرفون حيالَ الأشياءِ على أساسِ ما تعنيهِ تلك الأشياءُ بالنسبة إليهم.
• هذه المعاني هي نتاجٌ للتفاعل الاجتماعي الإنساني.
• هذه المعاني تحوَّرُ وتعدّل، ويتم تداولُها عبر عملياتِ تأويلٍ يستخدمُها كلُّ فردٍ في تعامله مع الإشاراتِ التي يواجهُها.
* إرفنج جوفمان ErvingGoffman (1922-1982):
وقد وجَّهَ اهتمامَهُ لتطوير مدخلِ التفاعلية الرمزية لتحليلِ الأنساق الاجتماعية، مؤكداً على أن التفاعلَ – وخاصةً النمطَ المعياريَّ والأخلاقيَّ- ما هو إلا الانطباع الذهنيُّ الإرادي الذي يتم في نطاق المواجهة، كما أن المعلوماتِ تسهم في تعريف الموقف، وتوضيحِ توقعات الدَور.
مصطلحاتُ النظريّة التفاعلية الرمزية:
- التفاعل: وهو سلسةٌ متبادلةٌ ومستمرةٌ من الاتصالات بين فرد وفرد، أو فرد مع جماعة، أو جماعةٍ مع جماعة.
- المرونة: ويقصد بها استطاعةُ الإنسان أن يتصرفَ في مجموعةِ ظروفٍ بطريقة واحدة في وقت واحد، وبطريقةٍ مختلفة في وقتٍ آخرَ، وبطريقةٍ متباينة في فرصةٍ ثالثة.
- الرموز: وهي مجموعةٌ من الإشارات المصطَنعة، يستخدمها الناسُ فيما بينهم لتسهيل عمليةِ التواصل، وهي سمة خاصة في الإنسان. وتشملُ عند جورج ميد اللغةَ، وعند بلومر المعاني، وعند جوفمان الانطباعاتِ والصور الذهنية.
- الوعيُ الذاتي Self- Consciousness: وهو مقدرةُ الإنسان على تمثّل الدور، فالتوقعات التي تكُون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف معينة، هي بمثابة نصوصٍ يجب أن نَعيها حتى نُمثلَها، على حدّ تعبير جوفمان.(د.محمد عوض الترتوري،عن:almualem.net)

6- المقاربة السوسيوبنائية
المقاربة السوسيوبنائية، تنطلق من ثلاثة أبعاد أساسية:
- البعد البنائي لسيرورة تملك المعارف وبنائها من قبل الذات العارفة.
- البعد التفاعلي لهذه السيرورة نفسها،حيث الذات تتفاعل مع موضوع معارفها، والمراد تعلمها.
- البعد الاجتماعي(السوسيولوجي) للمعارف والتعلمات حيث تتم في السياق المدرسي، وتتعلق بمعارف مرموزة من قبل جماعة اجتماعية معينة.وعليه فإن المقاربة السوسيوبنائية هي مقربة بنائية تفاعلية اجتماعية(فليب جونير، ترجمة الحسين سحبان،2005). وسنتطرق بنوع من التفصيل لهذه المقاربة في موضوع سوسيولوجيا المعرفة التربوية.
* إعداد: محمد الصدوقي
- منشور بالعدد الاول من سلسلة"تربويات"2007.
.................................................. ............................
* مراجع:
- Pédagogie:dictionnaire des concepts clés…Françoise Raynal et Alain Rieunier,1997 ,ESFéditeur,Paris.
- عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا التربية، منشورات عالم التربية،الطبعة الأولى، 2000.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد1 ، مطبعة النجاح الجديدة ،1997-1998.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد،3، مطبعة النجاح الجديدة، 2001.
- د. عادل السكري، نظرية المعرفة من سماء الفلسفة إلى أرض المدرسة، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى،1999.
- سلسلة التكوين التربوي،عدد5،مطبعة النجاح الجديدة،2001.
- فليب جونير، الكفايات والسوسيوبنائية..إطار نظري، ترجمة الحسين سحبان،مطبعة النجاح الجديدة،الطبعة الأولى 2005.

التربية والدوغمائية


يرى أغلب الباحثين في مجال التربية أنه مهما كان البرنامج الدراسي جيدا، ومهما كانت مضامينه ومفاهيمه ملائمة للتلاميذ وفي متناولهم، فإن كل هذا غير كاف لمنح تعلّمهم معنى.

فإذا أردنا، مثلا، أن يصير الطفل مواطنا مسئولا مستقبلا، فينبغي أن يعرف دور الرياضيات والآداب والتاريخ...، حيث يجب أن يفهم سبب وجود هذه المواد الدراسية في المدرسة والمجتمع، والفائدة من دراستها... وهذا ما لا يفهمه تلاميذنا، إذ لا تمكنهم مدرستنا من إدراكه... أضف إلى ذلك أن هذه الأخيرة تدَرِّسُ العلوم من دون ربطها بتدريس فلسفة العلوم وتاريخها... في الثانوي، مما يجعل هذه العلوم بدون معنى بالنسبة للتلاميذ.

وينطبق هذا على كل المواد الدراسية الأخرى، حيث إننا عندما ندرس لغة أجنبية في المدرسة، فإن هذه اللغة ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة تمكن من تحقيق مقاصد وغايات معينة. لكن هذا ليس واضحا بالنسبة لمدرستنا ولا بالنسبة للمجتمع... ويسري هذا الأمر على أغلب المواد الدراسية في مدارسنا. وعندما تغيب المعرفة بطبيعة المادة الدراسية، وأسئلتها، وتاريخها، وأساليب إنتاج المعرفة في إطارها...، فإنها تفقد معناها، ويستعصي تطوير أي تصور لتدريسها...

يشكل نجاح التلاميذ اليوم شرطا لنجاحهم غدا. ويمر هذا عبر تكوينهم لصورة إيجابية حول ذواتهم، مما يتطلب من المدرس إثارة حماسهم، عوض تركيزه على استعراض معارفه ومهاراته... كما أنه من الأهمية بمكان أن يتم العمل في الحاضر على توفير الشروط لإقبال التلاميذ على الانخراط في بناء ذواتهم عبر بنائهم للمعارف...، عوض التلويح في وجوههم بالمخاطر التي تنتظرهم مستقبلا.

ويقتضي ذلك الاعتراف بحق التلاميذ في الوجود عبر تمكينهم من حق الفعل والرفض والإنجاز والفوز بالنجاح...، حيث إنه من الممكن أن ينجز كل التلاميذ ذلك، إذ إنهم قادرون على النجاح في بعض الأنشطة ورفع بعض التحديات... وينسحب ذلك حتى على التلاميذ الذين يوجدون في وضعية تَعَلُّمية صعبة. تبعا لذلك، يجب أن تكون البداية بالإنصات للذين يعيشون فشلا دراسيا من أجل إيجاد أنشطة خاصة بهم، ولحظات تُمكنهم من تفجير الطاقات الكامنة فيهم. فعندما نعثر على ما يمكن أن يُنجزه التلميذ الذي يعيش في وضعية تَعَلُّمية صعبة، وننطلق منه معه، فإننا نُمكنه من تجاوز بعض عوائقه وتحقيق ما لم يكن قادرا على تحقيقه من قبل. وهكذا، فإذا استطاع المدرس إيجاد حقل لنجاح التلميذ عبر اكتشاف ما يهمه وتوفير شروط تلبية مطالبه وحاجاته في آن، فإن هذا الأخير يكتسب الثقة في ذاته ويُكَوِّن صورة إيجابية عنها. وهذا ما يزيد من رغبته في التعلُم، ما يجعله أكثر استعدادا للقيام بأنشطة تَعَلُّمية أكثر صعوبة وتعقيدا...

وعندما يتم تدريس معرفة معينة من دون وعي مسبق بمطالب التلاميذ وحاجتهم إليها، فإن هذا يؤدي إلى فقدانهم للرغبة في البحث عن معناها، ويحول ذلك دون إقبالهم عليها، ويعوق استيعابهم لها...

لقد جرت العادة أن يبدأ المدرس عندنا بإلقاء معارفه على تلاميذه خوفا من ألا يُقبلوا عليها من تلقاء أنفسهم. بناء على ذلك، نجد ميلا كبيرا لدى مدرسينا نحو توزيع المعرفة كما يتم توزيع الطعام؛ إذ يُطعمون التلاميذ بالكلام والوثائق كشأن فعل العصافير بمنقارها مع صغارها. كما أنهم يغذونهم بشروحهم وإرشاداتهم أملا في الحصول على اعترافهم وتعلقهم بهم...

عوض ذلك، إنه من الضروري أن يعيش التلاميذ في لحظة معينة إنجاز مهمة ما تلبية لما عبروا عنه من حاجة ورغبة في اكتساب كفاية معينة.

لا يأخذ عمل التلميذ معنى إلا في علاقته بمشروعه الشخصي. وبناء على ذلك، فإن اقتراح عمل معين على التلاميذ غير كاف، لأنه لا يمكن أن يخلق لدى بعضهم إلا موقفا مسايرا، أو يجعلهم يشتغلون كآلات. فالمشروع يقتضي من التلاميذ أن يكونوا فاعلين، وأن يبحثوا عن كيفية إنجازه. ونحن لا نقصد بهذا المشروع عملا كبيرا، بل نقصد ما يعبر عنه تلميذ فاشل، أو في وضعية تعلمية صعبة، من رغبة في تجاوز فشله وبذل مجهوده من أجل اكتساب المعارف والانتقال إلى المستوى التعليمي الموالي. وقد تنتقل هذه الدينامية إلى رفاقه في جماعة الفصل.

يكون المشروع في البداية عبارة عن توجه أو اتجاه يرغب الفرد في السير فيه، ومعرفته، والانخراط فيه والعمل على إنجازه. ويمكن أن يكون هذا المشروع مرتبطا بتاريخ المتعلم ورغباته الحالية وأهدافه المستقبلية...

يرى بعض الناس أنه يمكن للتلميذ أن يبني معرفة من دون مشروع قائم على علاقة سليمة بمضمون معرفي. لكن الغائب عن أصحاب هذا الرأي هو أنه يمكن أن تتم كتابة المعارف الدراسية على صفحات ذهن التلميذ دون أن يدرك معناها ولا الفائدة منها، حيث يبتلعها ولا يهضمها، ما يحول دون استيعابه لها واستفادته منها... وقد يستطيع استخدامها بشكل ميكانيكي، لكنها لا تمكث في ذهنه طويلا، لأنها سهلة المحو كما هو شأن الكتابة على الماء أو على الرمل. وهذا ما يحدث حاليا في امتحانات الباكالوريا، إذ تتبخر المعرفة بعد اجتياز الامتحان، لأن المعنى يكمن في النجاح فقط، لا في مضمون المعارف الدراسية... هكذا، يظهر جليا أن الهدف من المدرسة هو الفوز بالنجاح وليس التعلُّم...

لكي يكون للأنشطة المدرسية معنى، يجب أن تكون مفيدة في الحياة راهنا ومستقبلا. وعندما تخلو من ذلك، فإنها تبقى سطحية، إذ قد ننصت إلى ما يقال لنا ونشارك في مناقشته ونفهمه...، لكننا سرعان ما ننساه إذا كان غير مفيد في حياتنا. كما ينبغي أن تكون هذه الأنشطة ذات شحنة وجدانية أو رمزية ليكون هناك استعداد لاستدماجها والتطلع إليها. أضف إلى ذلك أن الأمر يقتضي أن تُمَكِّن هذه الأنشطة المتعلم من الترقي الاجتماعي والمدرسي...

لكن هذا العامل الثالث هو حافز خارجي، ما يجعله أقل فعالية من العاملين الأولين، لأنهما حافزان داخليان.

غالبا ما يتم الإعلان عن بعض الغايات التربوية، لكننا لا نجد لها حضورا في المضامين ولا في الطرائق... كما أنه لا يتم تجسيدها في المعيش اليومي... وإذا كان المعنى يكمن في الغايات، فإنه يجب أن تتوفر شروط ووسائل لذلك. وهذا ما يقتضي ترابطا وانسجاما بين معنى المعرفة وشروط بنائها. وينجم عن غياب ذلك ضياع المعنى، لأن وظيفة شروط بلوغ الغايات هي ما يسمح للمعنى بالوجود والتعبير عن ذاته...

يمكن لشروط بناء المعرفة أن تكون مناقضة لطبيعتها ومتعارضة مع بنائها ومنحها معنى سليما. فعندما ننخرط في نزعة تقنية تؤدي إلى المغالاة في تدقيق التنظيم والتخطيط... من أجل ضمان انسجام أكثر، فإننا قد نبتعد عن المعنى.

هكذا، فمن المستحيل قبول التخطيط الصارم للتدريس. ولقد تأكد أن النظريات التي تتقدم بوصفات جاهزة غير ملائمة. وترجع الصعوبات التي يطرحها التخطيط الصارم الدوغمائي إلى عدم تلاؤمه مع الواقع، حيث توجد هوة فاصلة بين النظرية والممارسة، كما أنه ليس هناك نوع واحد من التلاميذ، والتاريخ غير ساكن... وهذا ما يفرض ضرورة التكيف المستمر مع تعددية الواقع. وتكمن خطورة التخطيط الصارم للطرائق البيداغوجية في كونه قد يحول دون تفاعل التلميذ مع كل من المعارف والمدرس وأفراد جماعة فصله... كما أنه يعوق عفويته ولا ينصفه... أضف إلى ذلك أنه ينكر ما هو وجداني ورمزي...، ما ينجم عنه السقوط في التصنع والتحايل والخداع والغش. وهكذا تتعارض خطية الطرائق البيداغوجية وصرامتها الدوغمائية مع العلاقة التربوية السليمة، وقد تنسف المعرفة المراد تدريسها....

يتم اليوم الحديث عن هندسة التكوين والتدريس... وككل مقاربة، فإنه يمكن أن يظن البعض أن لهذه الأخيرة بعض الفائدة، لكننا نرى أنها تتضمن الكثير من التجاوزات. فقد يؤدي السقوط في هذه النزعة التقنية إلى ضياع المعنى. وللتدليل على ما نقول، فإننا نلاحظ أنه غالبا ما تتم بداية بناء مشروع جماعة فصل معينة أو سلك دراسي معين بتحديد البنيات والأطر والخانات... وبعد ذلك يتم البحث عن المضمون الذي ستتم تعبئتها به. لكن ما يتم إغفاله هو أن هذه البنيات والأطر التي توضع بشكل مسبق قد تمس بحرية تفكيرنا وتسجننا داخل قوالبها الجاهزة... وهذا ما يقتضي أولا مناقشة مضامين المشروع بكل حرية انطلاقا من تحليل الحاجات... وبعد ذلك، وعن طريق الذهاب والإياب بين الإمكانات والإكراهات، يتم الانتقال إلى تحديد البنيات والأطر الملائمة للأهداف.

يقتضي كل مشروع بيداغوجي البحث المستمر عن الطرائق الكفيلة بإنجازه. وتتضمن كل طريقة، بشكل ضمني أو صريح، مشروعا بيداغوجيا ونوعا من العلاقة بالمعرفة، وبالآخر، وبالسلطة... كما أنها تتضمن أيضا مواصفات الإنسان المراد تكوينه والمجتمع المراد بناؤه. لكن خاصية البيداغوجيا هي أن الغايات لا تتضمن في ذاتها الطرائق القادرة على تجسيدها؛ إذ يجب استعمال الخيال لابتكار الطرائق باستمرار والتقاطها من هنا وهناك، مع ضمان انسجامها مع طبيعة المعرفة المُدرَّسَة وغاياتنا التربوية... تبعا لذلك، فإنه من الخطأ السقوط في منظور ميكانيكي عبر الاعتقاد بأن هناك طريقة جيدة واحدة ووحيدة، تصلح لتحقيق هذا الهدف أو ذاك، أو تلائم هذا التلميذ أو ذاك...

أضف إلى ذلك أنه إذا تم تطوير مشروع من قِبَلِ الإدارة أو المدرسين فقط، وتم الاكتفاء بتقديمه للمتعلمين فحسب. فلا ينبغي أن يُنسب هذا المشروع إلى التلاميذ، إذ لا يمكن أن نطلب من الفرد الانخراط في مشروع ما إذا لم يشارك في تطويره، ولم يساهم في تدبيره، ولا في تقويمه، وإذا لم تكن، قبل كل شيء، المفاوضة حوله وتطويره... بحثا جماعيا عن المعنى.

للمدرس متطلبات، إذ يريد من التلاميذ الانخراط في بناء معرفة معينة في حصة ما، لكن قد يحدث أن يتكلم التلاميذ في مرحلة من المراحل في كل اتجاه. وفي هذه الحالة يجب ألا يكون دور المدرس هو منعهم من البحث، بل ينبغي أن يلجأ إلى توجيههم نحو الهدف الذي حدده للحصة من دون أن يصدهم عن التفكير. وتكمن فائدة هذه المقاربة في أنها تمنح كل تلميذ فرصة للتعبير عن معناه الخاص للمعارف دون أن يتعرض للمقاطعة من قِبَلِ المدرس أو من أي تلميذ آخر. هكذا تكون جماعة الفصل أمام معان عديدة، ما يحفزها على التفكير وتقبل الآراء المختلفة... وهذا ما قد يجعل التلاميذ يغنون بعضهم بعضا، وينخرطون عن وعي في إنجاز الهدف الذي رسمه المدرس لهذه الحصة إذا كان له معنى بالنسبة إليهم.

إذا كانت الوزارة تحدد الغايات والبرامج الدراسية وأساليب التدريس... فماذا يتبقى للتلاميذ والمدرسين...؟ يظهر لي أن نظامنا التعليمي يشتغل حسب نظام "تايلر" Taylorisme، حيث يحدد أرباب المقاولات الغايات، ويقوم أطر هذه المؤسسات بتحديد شروط وأساليب بلوغها. ولا يتبقى للعمال أي دور سوى تنفيذ ما هو مُسَطَّر لهم. يجب إخراج مدرستنا من ظلمة النزعة التايلورية Taylorisme، عبر تمكين المدرسة من إقامة علاقة سليمة مع المعرفة والتلاميذ...، وتوفير الشروط الكفيلة بانخراط التلاميذ في بناء معارفهم الخاصة... وهكذا ستكتسب مدرستنا معنى.
 
محمد بوبكري

الوزارة الوصية و منطق التعليمات الفوقية


في مقابل نموذج المدرسة العمومية المغربية التي يرتادها أبناء الشعب توجد مدارس الأعيان، البعثات الأجنبية التي تكرس عدم تكافؤ الفرص وعدم المساواة في الولوج إلى المعرفة، حيث يتم اقصاء و التضيق على ابناء الفقراء. أما أبناء المحظوظين فلهم تعليمهم الخاص ومسالك دولية في قلب المدرسة العمومية بخيارات فرنسية ،اسبانية وإنجليزية لانقادهم من الفشل المعرفي المزمن اليوم يتم  تفكيك أوصال هذه المدرسة وبيعها لسماسرة القطاع الخاص وهو ما يتم تكريسه من خلال التدابير ذات الأولوية.

لقد تم تفصيل هذه التدابير على مقاس المصالح الخاصة للفئات المحظوظة في المجتمع . فيقوم التدبير الأول على التركيز على المعارف الأساسية في الكتابة والقراءة والحساب خلال السنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائيّ؛ ثم إدماج المعارف المهنية والتأهيل المهني ابتداء من السنة الخامسة ابتدائي، الشئ الذي يجعل النظام التعليمي منذ سنواته الأولى في خدمة سوق الشغل واي سوق ووفق أي شروط ، خاصة بعد انفتاح المغرب على المناطق الحرة والكل يعلم ظروف العمل فيها و شروط التشغيل و ما يمكن ان يقال عنها انها شكل من أشد  اشكال العبودية المعاصرة.

مباشرة بعد تولي محمد الوفا قطاع التعليم سنة 2011، تم تعليق العمل ببيداغوجيا الإدماج. التي ابتلعت الملايير التي رصدت للتكوينات شكلية التي أشرف عليها كزافييه روجيه تحت شعار تقريب التعلمات إلى الواقع المعيش عبر خلق قنوات للاندماج الأفقي للمعارف وفتحها على الوسط السوسيو-اقتصادي ، ليتبين فيما بعد أن تلك التكوينات لم يتم إنجازها بالكامل كما كان معلنا، لتتضح الصورة التي تم التعامل بها مع الميزانيات المرصودة للمخطط الاستعجالي الذي ابتلع الملايير دونما إحداث أي تغيير على مستوى القطاع؛ بإستثناء إغناء الموظفين الفاسدين الذين يتحكمون بزمام القطاع. ليتضح مبعث هذا الارتباك في الاختيارات الاستراتيجية للقطاع و الخطابات المكرورة حول أزمة المدرسة العمومية، ومسؤولية المدرسين في تردي المنظومة.

ما يطبق اليوم على أرض الواقع يأتي من خارج المؤسسات التشريعية، وتقوم الوزارة فيه بمسؤولية تنفيذ التوصيات وتدبير الأمور التقنية والإدارية وتأمين مصالح النافذين (وخير دليل تصريح وزير التربية الوطنية، رشيد بلمختار، أمام البرلمان في جلسة الرد على أسئلة النواب خلال جلسة الثلاثاء 17 نوفمبر 2015)، الواضح انه ليس له اية رؤية أو تصور إنه التدبير الارتجالي المحكوم بالتعليمات والمذكرات التنظيمية الفوقية والمفاجئة في أغلب الأحيان .

يصاب المتتبع بالدهشة لعدد للقرارات التي اتخذتها الوزارة تحت غطاء التدابير ذات الأولوية من خلال المذكرات والمراسيم المتعاقبة في ظرف زمني وجيز. فبعد فتور الحركة النقابية داخل قطاع التعليم ، تم اتخاذ مجموعة من القرارات تمهد لتطبيق العمل بالعقدة الذي يجعل تدبير الموارد البشرية بالوزارة يدخل عهدا جديدا من تقليص الترقيات والتحكم فيها وتقليص الموارد البشرية ، على الرغم من الحاجيات والخدمات المتزايدة لقطاع التعليم. كما أن المرسومين خاصة المتعلق بفصل التكوين عن التوظيف يشكلان مدخلا لتفعيل العمل بالعقدة ومراجعة وضع كافة الموظفين على إلرغم من الخصاص الناتج عن تقاعد الآلاف من المدرسين الذين تم تمديد فترة عملهم قسرا وجورا عبر إصدار قرار وزاري بالاحتفاظ بهم إلى غاية نهاية شهر غشت من كل سنة. كما أن قانون المالية لسنة 2016 حدد عدد المناصب المالية المخصصة للقطاع في 7000 منصبا، وهو العدد الذي لا يغطي سوى نصف عدد المتقاعدين سنويا، لينضاف هذا العدد سنويا لرقم الخصاص الذي يتعمق سنويا مع تنامي الحاجة الى الأطر التربوية، حيث يزداد عدد التلاميذ سنويا فيما يتوسع رقم الخصاص المهول، لتلجأ الوزارة إلى سياسة الضم والتكديس ﻷبناء الشعب المغربي في حجرات و التي لا تتوفر فيها ادنى شروط التحصيل. ولعل حديث وزير التعليم مؤخرا للصحافة يوضح النكبة التي تعيشها المدرسة العمومية، معتبرا تكديس أزيد من 70 تلميذا بحجرات التعليم الابتدائي أمرا واقعا، وضم المستويات قدرا يجب التعايش معه عبر دعوة المدرسين إلى التفكير في إبداع بيداغوجيا، سماها ب"بيداغوجيا" المستويات المتعددة، وهي الظاهرة التي استفحلت بشكل كبير وخطير، خاصة بالمناطق النائية والمنسية ، حيث يتم ضم كل مستويات التعليم الابتدائي في حجرة واحدة وبمدرس وحيد وواحد...

أما على مستوى بنية الاستقبال، فلا جديد يذكر سوى الحديث عن التخلص من البناء المفكك (7000 قسم) والذي دشنت الوزارة عبر تصريحات بلمختار حملة إعلامية واسعة تكشف مخاطر تلك الأقسام التي تجاوز عمر معظمها الصلاحية المحددة في 15 سنة ويزيد (في أغلب الأحيان عن ثلاثين سنة)، حيث كشف الوزير من خلال مداخلاته المتعددة عن تسبب تلك الحجرات في مرض السرطان لمرتاديها بسبب مواد تستعمل في بنائها، فتم الشروع في تفكيك الأقسام دون تعويضها أو إعطاء حلول من أجل تجاوز الاكتظاظ الناتج عن إزالتها. وعوض ذلك، تستمر الوزارة في سياسة تفويت مجموعة من المؤسسات إلى القطاع الخاص والتماطل في فتح مجموعة من المؤسسات بدعوى الخصاص في الأطر التربوية. في وقت تقول فيه المعطيات الرسمية، بغض النظر عن ما يشوبها من اختلالات، أن قرابة 370 ألف طفل يغادرون المدرسة سنويا، وأكثر من مليون طفل يتراوح عمرهم ما بين 9 و14 سنة خارجها.

يعتبر قطاع التعليم بالنسبة لرأس المال  قطاعا مفتوحا على الربح المضمون. فالسلعة متوفرة (المعرفة) والمستهلك موجود وبكثرة (التلميذ) والآباء مستعدون للدفع مقابل انقاد أبناءهم من الرداءة التي تقبع فيها المدرسة العمومية ومن غياب الجودة ، وهو الشعار المحوري الذي عبر عنه المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي عبر من خلال التقريرين التركيبي والتحليلي عن تصوره الذي يعتبر مدخلا لمزيد من الاختراقات للقطاع الخاص ومزيدا من وضع القطاع رهن إشارة المستثمرين سواء من داخل القطاع أو من خارجه. ولعل أزمة الخصاص الممنهجة وما تخلقه من اكتظاظ وتدمر تستهدف التهجير القسري للتلاميذ نحو القطاع الخاص، وهو ما نجحت في تحقيقه نسبيا في أوساط التلاميذ المنحدرين من عائلات ذات دخل يسمح في حدود ما بالتضحية لانقاد أبنائها. فأقسام المؤسسات العمومية أصبحت تغص بمرتاديها في ظل نقص خطير في الموارد البشرية والذي يتفاقم كل موسم دراسي في ظل السياسات القائمة على تقليص المناصب المخصصة للقطاع وفي ظل فصل التكوين عن التوظيف عبر إصدار المرسومين المشؤومين اللذين يفتحان مصير المتخرجين على العمل بالعقدة من داخل القطاع العام أو الخاص، أي يتم تقديم هدية سخية، مدعمة من جيوب الكادحين ، للقطاع الخاص الذي طالما اشتكى من غياب الأطر المؤهلة للعمل به في ظل صدور مذكرة نهاية الموسم الدراسي 2014/2015 تمنع استقطابه لمزيد من الأطر من القطاع العام. وتنضاف هذه الهدية إلى الإعفاء الضريبي الذي يستفيد منه أرباب المؤسسات الخاصة، في غياب أي تأطير فعلي وأي مراقبة جدية لمدى التزامهم بدفاتر التحملات المقدمة.

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

كسوف الشمس في 21 غشت و بداية العد التنازلي للنهاية.

كشفت صحيفة "الديلي ميل" البريطانية، استنادا للعالم ديفيد ميد،إمكانية اصطدام الكوكب الغامض "نيبيرو" بالأرض. و قال الع...