هزيمة إيسلي 1844 و بداية الخلافات المغربية الجزائرية.


لفهم أمثل للظرفية التي جاءت فيها معركة ايسلي 1844،  كان لزاما علينا رصد التحولات السياسية و مسار العلاقات المغربية الفرنسية، و كيف وصلت الامور الى ما كانت عليه من زمن الهزيمة من تداخل السياقات و الظرفيات ، لأن حرب إيسلي ماهي إلا احدى تجليات العلاقة المتوترة مع الفرنسين و القوى الاستعمارية عامة، كما تعكس المأزق المغربي بين مطرقة  القلاقل الداخلية و سندان الأطماع الخارجية.
تمثل الثورة الفرنسية 1789 واحدة من أهم الأحداث التي شهدتها أوروبا لأنها كانت بالفعل نقطة تحول أساسية في تغير وتطور الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ليس في فرنسا فقط بل في أوروبا بأكملها، وكانت لها نتائج وانعكاسات أثرت على العالم ولسنوات عديدة.
فقد انتهت سيطرة أسرة آل بوريون ، وحكمها في فرنسا، ودمرت النظام الاجتماعي السائد فيها، وكان لشعارها المرفوع: الحرية والإخاء والمساواة وإعلان حقوق الإنسان أثر واضح في أوروبا ، والعالم .
 يرجح أن يكون المغاربة قد علموا بالثورة الفرنسية عن طريق مبعوث السلطان محمد  الزوين و التي تزامنت بعثته مع الثورة الفرنسية، رحلة المبعوث السلطاني هذه قادته الى كل من فرنسا ، إسبانيا ، إيطاليا و الدولة العثمانية ، و يبدو أنه بعد عودته سنة 1790 قد أطلع السلطان على حيثيات  الوضع هناك، كما أن  السلطات المغربية قد اعتمدت على القناصل الأوربيين و خاصة الفرنسي في معرفة بعض تفاصيل هذه   الأحداث، كان الموقف المغربي يتماشى مع الموقف التركي في سلبيته من الثورة و أفكارها و  قد يكون هناك تأثير إنجليزي في اتخاذ مواقف كهاته .
رأى المغاربة في غزو مصر سنة 1798 كارثة أصابت كل المسلمين لما لمصر من مكانة في نفوس المسلمين قاطبة فهي قبلة لطلاب العلم و معبرا للحجاج. في المغرب عجز المولى سليمان على الاستجابة للباب العالي في اعتراض السفن الفرنسية بمضيق جبل طارق، لكن الرد  الشعبي المغربي كان أسرع و أكثر تأثيرا خاصة من عند الحجاج المغاربة و المقيمين بمصر يكفي أن نذكر الجيلالي السباعي الذي كون جيشا من المتطوعة و تزعم الجهاد ضد الفرنسيس و تصدر واجهة الأحداث بعد رفضه الهدنة التي عقدها المماليك مع الفرنسين [1].
كان الاعتقاد لدى المغاربة أن الهجوم على مصر يدخل في إطار أشمل و أعم و هو ارتباطه بالصراع بين الاسلام والنصرانية، و أن ما حصل بمصر مجرد حلقة في سلسلة من الأحداث المحتملة، وعدد من البلدان الإسلامية مرشحة لتكون مسرحا لها ذلك ما عبر عنه محمد  الرهوني و هو من ابرز علماء الحقبة السليمانية بقوله: "إن ما وقع بمصر من عظيم الفساد يُخشى ان يقع مثله بسائر البلاد".
يؤكد الباحثون أن النخب المغربية لم تعر اهتماما كبيرا لثورة الفرنسية و أفكارها بينما  أولو أهمية كبيرة للغزو مصر ، أما عامة الشعب فلم يكن لديه إلا بعض الإشارات التي كان يقدمها بعض الفقهاء أو ما تسرب عن دوائر السلطة.
وذلك مرده إلى أن المغاربة لا ينظرون الى أوروبا وفرنسا خاصة كمجال حضاري أو كمثال يحتذي به. هذا من جهة، من جهة أخرى أن المغرب في عهد المولى سليمان عاش فتنا وصراعات سياسية محتدمة لم تخفف من حدة هذه الصراعات سوى اجتياح الأوبئة و المجاعات كالطاعون الكبير1799/1800 الذي عم  المغرب من تطوان الى مراكش لم تسلم منه إلا طنجة لتطبيقها سياسة الحجر الصحي والذي رفض المولى سليمان  تطبيقه على باقي المناطق بحجة مخالفته لشرع هذا الوباء راح ضحيته أكثر من ثلت السكان بما في ذلك أعتى خصوم المولى سليمان.

في ظل وضع داخلي  متأزم الى هذا الحد تميز الوضع الدولي بالتعقيد و الضبابية وذلك راجع لتنامي القوة الفرنسية و ازدياد شهيتها التوسعية فقد كانت تحركات فرنسا الدولية تثير مخاوف حقيقية لدى السلطات المغربية و خاصة بعد حملة نابوليون على مصر، وقد أشار القنصل البريطاني ماترا عن مدى الذعر الذي أصاب المغرب بعد غزو فرنسا لمصر و صرحوا للبريطانيين مدى تعويلهم عليهم للحد من التوسع الفرنسي و الوقوف في وجه أطماعهم، لم  تبددت كل هذه المخاوف حتى  بعد انسحاب فرنسا من مصر سنة 1802و توقيع معاهدة أميان ذلك بالنظر إلى البنود التي جاءت فيها والتي كانت تهدف بالأساس  إلى تفكيك الدولة العثمانية، وإضعاف المسلمين لكن ما فتأت تتجدد هذه المخاوف بعد احتلال فرنسا للبرتغال  سنة 1807 و  إسبانيا سنة 1808 فدعا المولى سليمان لتعبئة للجهاد على طول السواحل و لم يخفف  من حالة الاستنفار هاته إلا الهزائم التي مني بها نابوليون أمام البريطانيين بين سنة 1808-1813 الشيء الذي حسن كثيرا العلاقات البريطانية -المغربية[2].
من المحتمل أن يكون البريطانيون قد عملوا على إثارة مخاوف المغرب بشكل يسمح لهم بالحصول على المزيد من الامتيازات وذلك أنهم و منذ زمن بعيد  كانوا يطالبون  السلطات المغربية بميناء القصر الصغير  ، صاحب هذا التقارب المغربي البريطاني توثرا في العلاقات مع الجانب الفرنسي خاصة بعد أن لم يكلف نابوليون نفسه بتجديد المعاهدة المغربية -الفرنسية التي تعود الى 1767،كما أظهر فضاضة و ازدراء في التعامل مع المولى سليمان ،إضافة إلى اعتراض السفن التجارية المغربية من قبل البحرية الفرنسية و حجز كل ما عليها من أموال و بضائع و كل محاولات استرجاعها عبر بعثات دبلوماسية باءت بالفشل و لم تلق أذانا صاغية من قبل الفرنسيس. ردا على ذلك فأن المولى سليمان لم يهنئ بونابرت على تتويجه إمبراطورا يمكن أن نسوق رسالة أخ السلطان إلى القنصل الفرنسي ردا على رسالته و التي طلب فيها القنصل من السلطان البدء في مراسلة بونابرت فكان رده:

 " نصراني خدمتنا الشريفة فورني قونصو الفرنصيص، أما بعد، بلغنا كتابك ومعه كتاب للسلطان وقرأه وفهم معناه. والآن كيف يمكن أن يكتب لبونابارطي وهو لا زال جديدا ولم يأت من عنده كتاب ولا هدية التي يستحق عليها الجواب. وليس من القانون أن يبتدئ سلطان المسلمين سلطان النصارى بالكتابة. وحتى أنت لم يكتب في شأنك أنك قونصهم. فلا تعد إلى مثل هذا والتمام"[3]
كان انهزام نابوليون و انعقاد مؤتمر فيينا 1815م إيذانا بدخول العلاقات الدولية مرحلة جديدة، تمثلت في الإجماع على عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك  و خلصوا الى توحيد أفكارهم خصوصا حول السياسة الأوروبية اتجاه باقي العالم و التدخل أينما دعت الضرورة لذلك باسم الحرية أي باسم  تحرير العبيد و حرية التجارة و توفير الأمن الملاحة[4]
على أساس   هذا الاتفاق المبدئي احتدم التنافس خاصة بين فرنسا و إنجلترا بعد مؤتمر فيينا وجد المولى سليمان نفسه مجبرا على إنهاء الجهاد البحري سنة 1817م و التخلص من الأسطول المغربي المتهالك بعد أن تبت عدم فاعليته خصوصا أمام الأمريكيين حيث سنة 1803م أعطى المولى سليمان أمرا للرايس لوباريس بحجز كل المراكب التي لا تحمل ترخيصا بالعبور أدى حجز مركب امريكي الى ردة فعل قوية من قبل البحرية الامريكية التي عملت على أسر الرايس ابراهيم لوباريس ومأتيين من بحارته و جد المولى سليمان نفسه مجبرا على التوجه الى طنجة لتوقيع المعاهدة مع الامريكان بواسطة إنجليزية.
  يعزو العروي[5] احتلال الجزائر إلى أن فرنسا كانت تعيش عهد ردة على أفكار الثورة الفرنسية تمثل في إحياء النظام الأرستقراطي القديم واتسمت سياستها بالطابع الرجعي كما أن هناك عاملا  اكثر عمقا هو تأخر الثورة الصناعية  وبالتالي احتلال الجزائر جاء نتيجة لتناقضات داخلية فرنسية هي تصريف مشاكل سياسية و اقتصادية متفاقمة لشغل الرأي العام ،إضافة الى  الإمكانيات و الفرص التي يمكن توفرها للعاطلين و الباحثين عن الثروة ، و كذلك لإشغال الجيش و الحد من تركيزه على الأوضاع الداخلية.
وقد عرفت هذه الفترة صراعا سياسيا محتدما بين الملكية والطبقة الوسطى توجت بثورة الأيام المجيدة 26-29 يوليوز من سنة 1830م أي أيام قليلة بعد احتلال الجزائر و التي تدخل الجيش خلالها مخلفا ألاف القتلى، و انتهت بسقوط لويس العاشر و تنصيب لويس فيليب و قيام حكم ملكي بصلاحيات محدودة.
كان دخول الجزائر العاصمة في 5 يوليوز سنة 1830م أياما وصل الخبر الى السلطان عن طريق عامل تطوان محمد أشعاش الذي رفع تقريرا مفصلا حول الوضع فجاءه جواب السلطان:
 "وبعد وصلنا كتابك صحبة كتاب ابن عليل على شأن الواقعة التي ساءت الإسلام و المسلمين و أدمت عيون أهل التقوى و الدين من استيلاء عدو الله الفرنصيص على ثغر الجزائر "[6].
كان الاحتلال الجزائر وقعا أشد وطأة على نفوس المغاربة من غزو فرنسا لمصر للاعتبارات  عدة  أهمها أن دولة نصرانية أصبحت تتقاسم حدودا ترابية ممتدة و شاسعة و عواقب ذلك من الناحية العسكرية و الاستراتيجية الشيء الذي يسهل مأمورية غزو المغرب  في حالة ما إذا أرادت فرنسا  ذلك ، قد كان المغرب دائما مهددا عبر واجهتيه البحرية لكن باحتلال الجزائر أصبح الوضع  مختلفا تماما، إضافة الى ذلك علاقات الجوار الطويلة الأمد و التي طالما ميزت المغرب و الجزائر حيث أصبح المغرب منذ ذاك الحين مجبرا التعامل مع النصراني الكافر الذي تجب  محاربته شرعا .
  في الوقت الذي سقطت فيه الجزائر العاصمة  بعد أن سلمها الدايات الأتراك تقريبا دون مقاومة خوفا على أنفسهم و أموالهم ،جمع أهل تلمسان أمرهم عزموا على بيعة السلطان عبدالرحمان بن هشام  الذي قبل بيعتهم بعد مشاورة العلماء، وأرسل ابن عمه علي بن سليمان أميرا عليهم مع فرقة من الجيش  لدفاع و تحصين تلمسان لكن الأمر كان على درجة كبيرة من التعقيد ما اضطره الى  الانسحاب تحت التهديدات الفرنسية وضعف الجانب الجزائري.
بعد أن اختاروا عبد القادر ابن محيي الدين أميرا عليهم  ، عمل  السلطان  مدهم بالمال و السلاح و الخيل  كما دخل الأمير في صراعات هامشية على الزعامة مع القائد إبن إسماعيل وقادة محلين أخرين أثرت على سير المقاومة و لم يستتب له الأمر إلا مع حلول سنة صيف  1840م  .
كانت بداية الحرب مع الفرنسيس قوية كما و صفها الناصري "يشيب لها الوليد…" حقق خلالها الأمير عبد القادر انتصارات باهرة " إذ أن الحاج عبد القادر هزم الكفار هزيمة شنعاء حتى ألجأهم الى سور البلد و ازدحموا على أبوابه ...فهلك في هذا الازدحام نحو أربعة ألاف دون الذين هلكوا خارج البلد بالكور و الرصاص و التوافل و الرماح " [7].
 تبادل الطرفان الهزائم و الانتصارات استطاع خلال هذه الفترة أن يؤسس نواة دولته الفتية فشملت (تلمسان، المدية، معسكر، سطيف، بسكرة، برج حمزة)، لكن مع تعيين المارشال بيجو على رأس الجيش الفرنسي أخدت  الأمور تنحو منحا أخر حيث تعامل هذا الأخير  بشدة و قسوة مع القبائل و السكان الذين يدعمون  الأمير عبدالقادر  لم يسلم من هذه القسوة  حتى الأطفال و النساء ونهج سياسة الأرض المحروقة التي استعملها الروس مع جيوش نابوليون،  ما أدى الى نزوح كبير  لسكان خصوصا بعد سقوط تلمسان بعثت فرنسا دبلوماسيها الى السلطان  المرة تلو المرة قصد ثني المولى عبدالرحمان عن الاستمرار في  دعم الأمير عبدالقادر لكن كل محاولتها في هذا المضمار باءت بالفشل.
استمر  المغرب في سياسته الداعمة للأمير رغم المتاعب التي لحقت به من تزايد ضغط المهاجرين الجزائريين والاحتجاجات  الفرنسية المصحوبة بالتهديدات الصريحة، رغم ذلك بقي المغرب واضعا كل ثقله لصالح المقاومة .

     بعد أن أحكمت فرنسا قبضتها على الغرب الجزائري اتجهت بأنظارها صوب المغرب و بدأت تعد  العدة لتوغل في التراب المغربي لضرب القواعد الخلفية للمقاومة حتى لا تقوم لها قائمة ،بعد أن استمالت جزءا كبيرا من مناصري الأمير عبد القادر الذين  انفضوا من حوله فدخل هاربا الى المغرب متنقلا بين منطقة الريف و الصحراء الشرقية معتمدا على دعم بعض القبائل المغربية كقبيلة بني يزناسن [8]،و يقول صاحب الاستقصا :"كان الحاج عبد القادر في هذه المدة قد فسدت نيته أيضا في السلطان وفي الجهاد مع أنه ما كان لجهاده ثمرة ورام الاستقلال وأخذ في استفساد القبائل الذين هنالك وتحقق السلطان بأمره وشرى الشر وتفاقم الأمر فعمد السلطان على حرب الفرنسيس وتقدم إلى أهل الثغور بالاستعداد والحراسة وإرهاف الحد لما عسى أن يحدث "[9].
في فاتح غشت من سنة 1844م  تقدمت بوارج حربية في اتجاه خليج طنجة وفي السادس  منه بدأت قنبلة المدينة دون سابق إنذار  بعد إجلاء الفرنسين عنها كما تم قصف الصويرة و المضيق لعلم الفرنسين بضعف تحصيناتها الدفاعية لأنها كانت تتوفر على مدافع عتيقة جلها معطل[10] ، في الوقت نفسه تخطى الجيش الفرنسي وادي تافنة الفاصل بين الاراضي المغربية و الجزائرية و بنى تحصيناته على طول الطريق و على الشاطئ لتزويد الجند.
ما أن دخل أن  الفرنسيس وجدة حتى عمل  السلطان على استنهاض ابنه الأمير محمد بن عبد الرحمن في التوجه الى  الشرق على رأس الجيش.

 كان الجيش المغربي مكونا من جيش الودايا و متطوعة القبائل (النايبة) وجد هذا الجيش نفسه في مواجهة الجيش الفرنسي في وادي إيسلي يوم 14غشت من سنة 1844م حسب بعض المصادر كان جيش فرنسا  مكونا من أكثر من عشرة الأف(الناصري) عنصر مدعوم من طرف القبائل الجزائرية الموالية لفرنسا يقول الناصري في شأن هذه الواقعة:
"ثم لما التقى الجمعان وانتشبت الحرب رصد العدو الخليفة وقصده بالرمي مرات عديدة حتى سقطت بنبة أمام حامل المظلة وجمح فرسه به وكاد يسقط ، ولما رأى الخليفة ذلك غير زيه بأن أسقط المظلة ودعا بفرس كميت فركبه ولبس طيلسانا آخر واختفى حينئذ ... ولما التفتوا إلى جهة الخليفة ولم يروه بسبب تغير زيه خشعت نفوسهم وقال المرجفون : إن الخليفة قد هلك ، فماج الناس بعضهم في بعض وتسابق الشراردة إلى المحلة فعمدوا إلى الخباء الذي فيه المال فانتهبوه وتقاتلوا عليه وتبعهم غيرهم ممن كان الرعب قد ملك قلبه ، وجعل الناس يتسللون حتى ظهر الفشل في الجيش من كل جهة ... والتفت الخليفة فرأى ما هاله من أمر الناس فرجع عوده على بدئه ، وانهزم من كان قد بقي معه عن آخرهم "[11]
 تجشم الجيش المغربي هزيمة نكراء قصمت ظهر المغرب على يد جيش أقل بكثير في العدد لكنه اكثر تنظيما و أحسن عدة إذ صح توقع المارشال بيجو حين قال: "لا تستمد الأعداد الغير المنظمة قوتها من كثرتها لأنها تكون عاجزة عن الانسجام"[12]
حاول العديد من المؤرخين و المفكرين إعطاء تفسيرا منطقيا لهذه الهزيمة التي ألمت كثيرا المغاربة فابن زيدان ذهب الى أن الهزيمة كانت نتيجة غياب الانضباط والتنظيم داخل الجيش إضافة الى الفرق الشاسع في العدة و العتاد.
اعتبرت فرنسا معركة ايسلي انتصارا كبيرا لمساعيها في شمال إفريقيا و حملت دلالة كبيرة بالنسبة لها بقدر عظم دلالة المغرب في عيون الأوروبيين منذ قرون لم يجرؤا عليه فقد كانوا يتحينوا الفرصة و يكيدون المكائد فقد أكثروا القول بأن فرنسا أكثر تقدما و تحضرا و ما معركة إيسلي الى دليل أخر بين العالم المتحضر و المسلمين الهمجين هذه النظرة التي رددت لعقود طويلة و صدقها جزء كبير من النخب المغربية في واقع الأمر لا تستند على أي دليل فها هو الأمير عبد القادر بإمكاناته البسيطة و الدعم الذي كان يتلقاه من المغرب استطاع أن يكبد الجيش الفرنسي خسائر فادحة لم تنفع معها لا عدة فرنسا و لا عتادها [13]
فما هو الشيء المختلف في إيسلي؟
المختلف هو الجانب المغربي لأن الهزيمة كانت مؤكدة قبل بدأ المعركة و قد علق المارشال بيجو بعد نهاية المعركة في رسالة الى ابن السلطان نقلها له أحد قواده:

“vous direz à votre prince qu’il ne doit pas concevoir de honte de la perte de la bataille d’isly, car lui ,jeune ,inexpérimenté et n’ayant jamais fait la guerre , avait pour adversaire un vieux soldat blanchi dans des combats ,dites-lui qu’a la guerre il faut toujours prévoir une défaite, et par conséquent s’embrasser d’objets de luxe et de bien-être qui peuvent servir de trophées à l'ennemi vainqueur “   [14]

ولْدت هزيمة إيسلي مواقف متضاربة داخل الدوائر المخزنية فهم من اشار على السلطان بإزاحته الأمير محمد من ولاية العهد باعتباره قائد الجيش المغربي في إيسلي، و هو المسؤول المباشر عن الهزيمة ويذكر الناصري أن الأمير عبدالقادر قدم النصح للخليفة وعاب عليه كيف يمكنه محاربة فرنسا و هو ينعم في الترف وكل مظاهر الأبهة التي صاحبها معه فأصبحت محلته و ما بها من أموال مطمعا للقريب قبل البعيد :
"إن هذه الفرش والأثاث والشارة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش العدو ليس من الرأي في شيء ومهما نسيتم فلا تنسوا أن لا تلاقوا العدو إلا وأنتم متحملون منكمشون بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على الأرض وإلا فإن العدو مني رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى عليها عساكره وبين كيف كان هو يقاتله وكان هذا الكلام منه صوابا إلا أنه لم ينجع في القوم لفساد البواطن وربما انتهره بعض حاشية الخليفة فرجع الحاج عبد القادر عوده على بدئه وانتبذ ناحية في جيشه ولسان حاله يقول لم آمر بها ولم تسؤني"[15]

وهناك من حمل المسؤولية جيش الشراردة و أهل أنكاد الذين نهبوا محلة الخليفة .مهما تكن أسباب و مسببات الهزيمة لكن الراسخ ان إيسلي تشكل علامة فارقة في تاريخ المغرب الحديث لما لها من عواقب المتوسط و البعيد ،فقد كان المغرب مهاب الجانب لم تجرؤ أكبر القوى على غزوه، بل كل ما استطاعوا فعله هو احتلال بعض الثغور والتي كانت تسترجع  المرة تلو المرة ، ولطالما أدت الدول الأوروبية الجزية لقاء ضمان سلامة مراكبها على الطول الساحل المغربي كما أن  المغرب بمناعته هاته بقي مجهولا رغم قربه من أروبا فكانت هزيمة إيسلي كشفا للمستور و اكتشافا لمكامن ضعفه [16]، باستسلام المغرب دخل في مفاوضات مع الجانب الفرنسي تسوية للأمور العالقة .
كانت الاتفاقية الأولى  في شتنبر من سنة  1844م بطنجة وقعها الى جانب الفرنسي بوسلهام ابن علي همت قضية الأمير عبد القادر و سبل طرده من المغرب تلتها معاهدة لالة مغنية في مارس 1845م التي  وقعت على الأراضي الجزائرية الفرنسية العامل الذي شكل ضغطا  إضافيا على المفاوضين المغاربة وصادقوا على بنود بعيدة عن مصالح المغرب تم تعيين الحدود الشمالية بشكل دقيق من مصب وادي كيس في البحر الأبيض المتوسط الي ثنية الساسي في الجنوب على بعد 150كلم بينما تم ترك الحدود الشرقية الصحراوية يكتنفها الغموض بدعوى أنها أراضي مقفرة و مرعى لرعايا الدولتين في حين تم تحديد القرى و القبائل التابعة لإيالة الجزائرية تجاهل الأخرى المغربية ما أن علم السلطان ببنود الاتفاقية حتى ثارت ثائرته و عمل على فضح المؤامرة الفرنسية رفض المصادقة عليها على إعتبار أن رسالة التفويض التي وجهها لممثليه أكدت عليهم  أن تبقى الحدود بين المغرب و الجزائر في إطار الاتفاقية المغربية التركية الموقعة سنة 1552م[17].
مع اشتداد الضغط على السلطان لتوقيع الاتفاقية و إرسال سفير الى فرنسا وافق في النهاية الى ارسال سفير عنه هو عامله على تطوان عبدالقادر أشعاش كما أعلن قبوله المصادقة فقط على البنود التي لا ضرر فيها على المغرب[18].
طالب ليون روش[19] السلطان بإرسال سفارة الى فرنسا وكان أكثر المتحمسين لها لإعطاء الانطباع للقوى الأخرى بمدى قوة فرنسا و قدرتها على تطويع و ترويض المناوئين و تتويجا لمسارها الحافل بشمال إفريقيا .



[1] محمد المنصور، المغرب قبل الاستعمار المجتمع والدولة والدين، 1792 - 1822، ترجمه عن الإنجليزية محمد حبيدة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء 2006، ص199.
[2] الصفار، رحلة، ، ص205.
[3] عبد الحفيظ حمان، المغرب والثورة الفرنسية، منشورات الزمن، الدار البيضاء 2002، ص 135
[4] عبدالله العروي، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي ،ط2، الدارالبيضاء 2009،ص531.
[5] العروي، مجمل تاريخ المغرب ، ص. 532 .
[6] عبد الهادي التازي، التاريخ الديبلوماسي للمغرب، المطبعة الملكية، الرباط 1989،ص9.
[7] أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ق3،ج9،دار الكتاب، الدار البيضاء .1997ص.43.
[8] قبیلة بني یزنا سن في الجبال الواقعة في ا الجنوب الغربي من وجدة وقبیلة أنكاد في شمال غرب نفس الجبال ، حیث وجد الامیر المساندة من ھاتین القبیلتین، حتى أن احد مرابطیھا أعلن الجھاد  باسم الأمير سنة 1844 م ضد القوات الفرنسیة
[9] الناصري، الاستقصا، ص44.
[10] بهيجة سيمو ، الاصلاحات العسكرية (1912-1844)، منشورات اللجنة المغربية لتاريخ العسكري، المطبعة الملكية،الرباط 2000،ص72.
[11] الناصري ، الاستقصا،ج9 ،ص52.
[12] سيمو،بهيجة،الاصلاحات العسكرية، ص86.
[13] حرب الريف مثال أخر على ذلك حيث استطاع عبد الكريم الخطابي إلحاق خسائر كبيرة بإسبانيا بإمكانيات ضعيفة.
[14] Roches .Leon , Trente- deux ans à travers l’islam , Tom2 .Paris ,1884.1885 p409
[15] الناصري ،الاستقصا...م.س ، ص51.
[16] سيمو، الاصلاحات العسكرية...م.س، ص89.
[17]التازي،التاريخ الدبلوماسي...م.س، ،ص.15.
[18] التازي،التاريخ الدبلوماسي...م.س، ص16
[19] كان ليون روش هذا هو المترجم الرئيس للجيش الفرنسي عرف عنه تشبته برأيه و عزيمته في الوصول الى هدفه و معرفته الجيدة  بالأعراف والتقاليد الإسلامية الى جانب إتقانه اللغة العربية تظاهر بالإسلام واستطاع العمل لدى الأمير عبدالقادر كاتبا خاصا من1837-1839إخترق تنظيمات المقاومة ووضع عيونه في كل مكان لدى ابن السلطان  محمد إبان الاستعداد لمعركة إسلي و كذلك في القصر السلطاني ,